التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نظرة على عقيدة الإختيار والتعيين المسبق

نظرة على عقيدة الإختيار والتعيين المسبق
2008
مقدمة:
"الإختيار وسبق التعيين والإرادة الحرة" هذه القضايا ظلت دائماً من أكبر الجدليات العقائدية منذ أغسطينوس[1] ثم عصر الإصلاح وحتى الآن، وهي مرتبطة إرتباط وثيق بقضية الخلاص أيضاً. كل من مؤيدها ومعارضها يؤكد أن نظرته هي الحق الكتابي. لكن ما أحاول تقديمة ليس مقارنة بين الرؤى المختلفة لعقيدة الإختيار لكنه رؤية منفصلة تماماً تبدأ من جديد لتحليل فكرة الإختيار والإرادة، ربما تكون نتيجتها في النهاية تقليدية مؤيدة لطرف أو جديدة مختلفة. هذه الرؤية تبدأ من الله وماهية الإنسان معاً، فهنا يكمن الحل كُيف خلق الإنسان ولماذا وماهي علاقته بالله من خلال نصوص كتابية وتاريخية وأبائية[2].
 (تابع بالأسفل)

نظرة تاريخية:
في مدينة دورتريخت Dortreckht الهولندية عام 1618 عقد مجمع من اللاهوتيين، إستمرت مداولاته نحو سبعة اشهر عقدوا فيها 154 جلسه[3]. وأخيراً في مايو 1619 صدر قرار يدين شخص يُدع يعقوب أرمينيوس[4] Jacob Arminios وخرج المجمع بخمس نقاط في مواجهة تعاليمه سميت بالنقاط الكلفينية الخمسة وصدر هذا القرار: "...الله يقرر بحرية، وليس مبنياً على علم سابق بإيمان المؤمن، من سوف يُخلص ومن سوف يهلك".
تعتبر هذه أول صياغة حقيقية رسمية لعقيدة الإختيار وسبق التعيين[5]، العقيدة التى ربما لم تكن أساسية في فكر كالفن ولكنها أصبحت كذلك للكالفينيين الذين أعادوا قراءة أسس الديانة المسيحية[6]. ومفتاح هذه العقيدة نجده في هذه الجملة كما صاغها كالفن: "...كما أن هبة المثابرة لم تكن مُنحت له، لهذا سقط بسهولة"[7].
ملخص هذه العقيدة كما نستمدها من كتابات كالفن وقرار مجمع دورتريخت كالتالي: "يعلن الكتاب المقدس بكل وضوح أن الله في قصده الأزلي وغير المتغير قد سبق فعين هؤلاء الذين أراد ان يعينهم للخلاص والذين أراد ان يعينهم للهلاك. وأما فيما يخص المختارين فهذا القرار نابع من رحمته وبدون إعتبار لأي إستحقاق بشري، وعلى العكس فإن باب الدخول للحياة الأبدية مغلق امام الذين أراد أن يسلمهم للهلاك"[8]. بالرغم، نحن نجد صدى لهذه الفكرة في كتابات أوغسطينوس فقد قال أن البشرية سقطت بسقوط آدم وأنها فاسدة وتحتاج نعمة الله للخلاص، ولكن النعمة لم تكن تُعطى للجميع، ويشير للقرار الإلهي أن البعض ينالون الخلاص[9]. لكن هذه الفكرة لاترد مطلقاً في كتابات الآباء الأخرى سواء من هم قبل نيقية أو بعده.

كيف نفهم الحق الكتابي:
حينما نلجأ لفهم حقائق وأقوال الكتاب المقدس علينا أن نخضع عقولنا مباشرة للحق الذي تشهد له الكتب المقدسة، لأن نصوص الكتاب المقدس يجب أن تُفسر في ضوء الأمور والحقائق التي تشير إليها والتي بسببها كُتبت هذه الأقوال وليس العكس[10]، إذ أن هذه الأقوال تحقق الغرض الإلهي المقصود منها عندما تنقل شهادة الله عن ذاته، وبالتالي تمكننا من الإيمان بالله والتفكير فيه بالطريقة الوحيدة الممكنة والمتاحة والتي تتمشى مع الطريقة التي يقدم هو بها نفسه لنا[11].
إن الإيمان بحقيقة كتابية ليس مؤسس على القناعة الداخلية أو الإختبارات الشخصية للعقل الإنساني بل مؤسس على حقيقة الله.

ماهية الإنسان:
"قال الله:نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا... فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه" (تك 26:1-27)[12].
عندما تسببت الخطية في سقوط الإنسان، لم يفقد صورة الله تماماً- نعم تشوهت لكنها مازالت موجودة- لأن الإنسان لا يصبح إنساناً لو فقد كونه على صورة الله. نعم، بالتأكيد فقدَّ الإنسان الشركة وإنفصل عن الله، لكن بقيت ظلال الصورة الإلهية مطبوعة على الإنسان لأنها جزء من ماهيته.
يقول Broughton "حتى غير المؤمنين لديهم القدرة على إظهار وتقديم الصلاح والإستقامة والنبل وبذلك لا شعورياً تجدهم يعكسون صورة خالقهم المطبوعة داخلهم"[13]. لذا يقول بولس الرسول :"لأنه الأمم الذين ليس عندهم ناموس متى فعلوا بالطبيعة ماهو في الناموس فهولاء إذ ليس لهم ناموس هم ناموس في أنفسهم" (رو 14:2)،
لهذا يسعى الإنسان دائماً وراء ظلال تلك الصورة على خُلق علي مثالها محاولاً الوصول لمصدرها وكلما إزداد أمانة وصدق في بحثه عنها كلما أقترب أكثر وأكثر من الوصول إليها، وهنا يأتي دور النعمة التى تنجذب تلقائياً لذلك الإنسان الباحث عنها لتكشف له عن سر النعمة... عن الله.

بالتأكيد الضمائر ضعيفة وغير صالحة بسبب الخطية (1تيمو 2:4) وهي أيضاً ضمائر موسومة (تي 15:1) لكن هذا لا يمنعها من ان تسعى وتبحث عن هويتها الحقيقية فلازال هناك قبس إلهي في داخلها، لكن هذا لا يعني ان الإنسان عليه ان يبدأ البحث عن الحقيقة من داخله كما تدعو الفلسفات الشرقية والغنوسية، لكنه يبدأ من مناجاة الله من الطلب أن يكشف له الله عن ذاته، هكذا طلب فيلبس قائلاً " يا سيد أرنا الآب وكفانا" (يو 8:14) وكانت الإجابة من الإله المتجسد " الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 9:14).
 كل ما تفعله الظلال المشوهة للصورة الإلهية  في الإنسان انه تشعره انه لم يصل بعد لحقيقة وجوده وهويته ومصدره، فحينما يتأمل الإنسان فى نفسه، ينشأ فضول حول ذاته وماهية وجوده، وما من وجود بشرى يستطيع ان يحيا دون ان يمعن النظر فى هذه الأمور،وهذا هو سر الصورة الإلهية، ونجاح الإنسان النهائي يستشعره بقبوله  إعلان يسوع المسيح، حيث تستنير صورة اٌلإنسان الداخلية وتشعر بالشبع والإكتفاء، لكن طالما ظلت جائعة وقلقة تبحث عن ذاتها يعرف الإنسان أنه لازال امامه ان يبحث.
مرة أخرى، ليست الصورة الداخلية المشوهة كافية وحدها، لكن هنا يأتي دور النعمة الإلهية فالله يكشف عن ذاته لهولاء الساعين الطالبين وجهه ليعرفوه: "إطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه وهو قريب" (اش 6:55)

يقدم القديس أثناسيوس شرحاً هاماً لهذه القضية في كتابه تجسد الكلمة، فهو يؤكد أولاً على حقيقة خلق الإنسان على صورة الله "لم يكتف (الله) بمجرد خلقته للإنسان كما خلق باق المخلوقات غير العاقلة على الأرض، بل خلقه على صورته ومثاله واعطاه نصيباً في قوة كلمته لكن يستطيع وله نوع من ظل الكلمة وقد خُلق عاقلاً أن يبقى فى السعادة إلى الأبد" (تجسد الكلمة 3:3) هذه الصورة يؤكد القديس أثناسيوس هى التى تجعلنا في شركة مع الله ومعرفته فمعرفة الإنسان بالله لا تتم الإ برؤية الله، ويرى القديس أثناسيوس أن سقوط الإنسان أدى لإبتعاده عن هذه الصورة " تحولت وتناست انها كانت على صورة الله الصالح لم تعد بالقوة التى فيها ترى الله الكلمة الذي خُلقت على مثاله لكنها إذا إبتعدت عن نفسها (أى عن الصورة الإلهية) صارت تتوهم وتتخيل ما ليس له وجود" (تجسد الكلمة 1:8).

معرفة الله إذاً ليست امراً قائماً في الخيال البشري، فالكينونة لا معنى لها بدون معرفة الله[14]، بل معرفة الله هي جزء من المكونات الطبيعية الإنسانية أي صورة الله. وبالسقوط فقد الإنسان الرؤية وتحول للموت، وبالرغم من خُلق من الله وكائن بالله، لكنه لم يعد قادراً على رؤية الله وبالتالي معرفته، وبحسب القديس أثناسيوس لهذا تجسد الكلمة.
وبتجسده ظهر لكل البشرية المخلوقة مقدماً الطريق مرة أخرى لمعرفة الله "لأن الذي رأى الإبن فقد رأى الآب أيضاً" (يو 23:2)، "ومن قبلني فقد قبل الآب الذي أرسلني" (متى 24:10) لهذا يقول ق.أثناسيوس أن تجسد الكلمة كان كي "يعاينوا خالقهم الكلمة وأن يعرفوا فيه الآب".
  
علاقة ما سبق بمعرفة الله وبالتالي الخلاص
إذاً بحسب كلمات الرب يسوع الإله المتجسد هو يقدم لنا نفسه كطريق لمعرفة الآب، المعرفة الأولى التي فُقدت بالسقوط، وهو قدم نفسه لكل البشرية بل لكل الخليقة " ...اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر 15:16)، يؤكد هذه الحقيقة الوحي الإلهي " كان النور الحقيقي الذي ينير كل πᾶς إنسان آتيا إلى العالم " (يو 9:1)
وفي (يو 16:3) " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية". لاحظ التعبيرات في الآيات السابقة "كل، العالم، كل من يؤمن به" الخلاص هنا مقدم للجميع والنور ينير لكل العالم والخلاص ياتي لكل من يؤمن، وليس لكل من أعُطىَّ له الإيمان او أعُطىَّ طريقاً للإيمان (رج يو19:3، 12:8، 5:9، 39:9، 46:12) " هو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضا" (1يو 2:2)، " أي إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه" (2كو 19:5).
وفكرة عمومية الخلاص هي الفكرة الأساسية في الكتاب المقدس لأن الله "يريد ان جميع الناس يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون" (1تي 4:2) "وهو مات لأجل الجميع" (1تي 6:2) رج (حز 23:18-32، تث 16:24، 2أخ 4:25، ار 29:31-30، اش 10:3-11، رو 9:2، يو 16:3، تي 11:2، 1بط 9:3ظن 2تيمو 25:2، ...الخ)، وهذا ايضاً ما فهمه وآمن به آباء الكنيسة رج (اكليمنضس الروماني، ايريناؤس، ترتليان، غريغوريوس النيزنزى، كيرلس السكندري، يوحنا ذهبي الفم، ...إلخ)

(رو 9-11)
يجادل البعض[15] بنصوص روميه من الإصحاح التاسع وحتى الحادي العشر، حيث يتحدث بولس عن موسى ويوسف وعيسو هؤلاء المختارون وهؤلاء المرفوضون، لكن بولس لم يكن ينظر في سياق حديثه للخلاص الفردي لهؤلاء بل كان ينظر لهم كإسرائيل كأمه مختارة من الله وسط الشعوب، فعندما يتحدث عن إسحق وإسماعيل فهو يتحدث عن مصير شعبين لا مصير أفراد[16]. وهو هكذا يبدأ الإصحاح التاسع :" فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد الذين هم إسرائيليون ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد. آمين.ولكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت. لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعا أولاد. بل «بإسحاق يدعى لك نسل»  أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله بل أولاد الموعد يحسبون نسلا" (رو 3:9-8) وهكذا يستكمل بولس حتى الإصحاح الحادي عشر متكلماً عن إسرائيل الشعب.

النعمة
النعمة الإلهية من حيث هي هبة الحب الإلهي، تمنح لجميع البشر دون إستثناء لأن الله "يريد ان جميع الناس يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون" (1تي 4:2) "وهو مات لأجل الجميع" (1تي 6:2) و هو لم يات ليدين العالم بل ليخلصه، إن النعمة تتعامل مع جميع البشر على قدم المساواة ونفس الكيفية[17].
يفرق يوحنا الدمشقي[18] في إرادة الله بين الإرادة الأولي progygoumenon أو prwton والتي تسمى أيضاً بالمسرة الإلهية eudokia لأنه بواسطتها الله يريد ان الجميع الناس يخلصون وبين الإرادة اللاحقة أو التالية epomenon و التي يقاد بواسطتها الذين قبلوا النعمة إلي الخلاص[19].

إذا كان الله خلق الإنسان بغير إرادته، لكنه لم يخلصه من دون إرادته- كما قال اوغسطينوس- فأشركه في إعلان العهد الخلاصي وفي قبوله او رفضه لهذا الإعلان. فالله يفتح للإنسان مجالاً لإشراكه في العهد الخلاصي إشراكاً حراً فعالاً، بنعمته تعالى وبمجهوده  البشري، في تكامل التعامل بين الله والإنسان، بين نعمة الله وحرية الإنسان، وقد سمى هذه اللاهوتيون الشرقيون  sunergeia أي "تعاون عملي"[20].
إن فكرة الإرادة المقيدة نجد لها صدى كبير نابع من الثقافة الهيلستينية حيث ساد الإعتقاد أن البشر يختبرون العالم والتاريخ كمصير لايمكن إختراقه، ولايستطيعون التأثير فيه، بل سُلموا إليه كعبيد بلا حول ولا قوة. العالم سجن أكثر منه موطن وهكذا يصبح الله سيد التاريخ وصانعه أيضاً وبالتالي لايكون التاريخ مشتركاً بين الله والإنسان، بينما واقع سفر التكوين يخبرنا أن الله هو سيد التاريخ والإنسان هو صانعه فهو تاريخ تكاملي إلهي-بشري.

رومية 28:8-29
هو أحد أبرز النصوص التي يعتمد عليها لاهوتيوا عقيدة الإختيار المسبق. عند دراسة هذا النص يجب أن نضع عدة إعتبارات حول رؤيتنا وتفسيرنا للنصوص البولسية: أولاً الخلفية اليهودية المتزمتة لبولس، التي لايمكن فصلها على الاطلاق عن تعاليمه إذ انها – كما يرى ريستو سانتالا- تتطابق مع أفكار الأحبار اليهود والتطبيقات الهاليلييه للتوراة[21]، ثم الإختبار العميق الذي مر به بولس[22]. ثانياً نظرتنا نحن للنصوص الكتابية ، فالنص الكتابي بإستثناء الأسفار النبوية والكلمات الحرفية للسيد المسيح هي رسائل إلهية من خلال خبرة شخصية، فالله اوحى برسالته المعصومة في الكتاب المقدس من خلال خبرة هؤلاء الأنبياء والرسل، لذا فهذه النصوص نجدها في معصوميتها ممزوجة بخبرة وخلفية هؤلاء الذين خطوا رسائل الوحي الإلهي. ثالثاً ان أستخلاص أي عقيدة كتايبة يجب ان يكون من خلال الرسالة الأساسية للكتاب المقدس ككل وهي "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 16:3)، أخيرا يجب دراسة النص الكتابي في ضوء نصه اليوناني الأصلي:
"ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده.لأن الذين سبق فعرفهم  προέγνω سبق فعينهم  προώρισεν  ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرا بين إخوة كثيرين" (رو 28:8-29)

(1)                   προέγνω: في الثقافة الكلاسيكية اليونانية يُقصد بها معرفة أو إدراك مسبق او معرفة للمستقبل[23](Septuaginta Wisdom 6:14; 8:8; 18:6; Euripides, Xenophon, Plato, Herodian, Philostr., Others)[24]، أي يعرف عن حدث قبل وقوعه[25] (Demosth., 29, 58; Aristot. Rhet., II, 21, p. 1394 b, 11; Jos. Bell., 6, 8)[26]، والإسم يستخدم ليدل على المعرفة المسبقة التي تجعل من التنبؤ بالمستقبل أمراً ممكناً أي يشير إلي معرفة نبوية. وكلا من الفعل والإسم يتكلمان أساساً بالنسبة لله او بالنسبة للإنسان عن المعرفة المسبقة بناء على معرفة نبوية (Septuaginta Jdt 11:19; Jos, Ant., 8, 234 and 418; 15, 373)[27].
(2)                            προώρισεν: يقرر أمر/حدث قبل وقوعه، يقرر أمر قبل مجئ وقته[28]، هذا الفعل يرتبط بسابقه προέγνω، فـ προώρισεν يشير لما هو مرتبط بتلك المعرفة السابقة[29]، وبولس هكذا يستخدم الفعلين معاًَ ليشير لقرار الله بناء على علمه السابق[30].
(3)                                   المعنى: الله يعرف مسبقاً كل شئ ولكنه لا يحدد مسبقاً كل شئ فالأفعال التي تصدر منا يعرفها الله مسبقا ولكنه لا يحددها[31]، بصياغة أخرى: الأفعال التي تصدر منا تعتمد علينا ويتم إنجازها بواسطتنا لا يحددها الله، إن علم الله السابق لايتدخل على الإطلاق في تحديد مصير البشر "هأنذا واقف على الباب أقرع إن سمع احد صوتي وفتح الباب ادخل إليه وأتعشي معه وهو معي" (رؤ 20:3)، رج (مت 37:23) (أع 51:7-53) (أم 24:1-25) (إش 2:65).فمدلول الزمان يختلف بالنسبة لله عنا، بالنسبة لنا الزمن مقسم لماضي وحاضر ومستقبل لكن بالنسبة الله لا يوجد الزمن، فالله فوق الزمن لكنه غير منفصل عنه فالزمن موجود في الله وليس خارج الله، فكل الأشياء بالنسبة لله هي حاضر دائم.
(4)                                   بولس الرسول يربط بين المعرفة السابقة لله والتعيين السابق المرتبط بهذه المعرفة –وهو نفس الربط الذي قام به بطرس الرسول في (1بط 1:1-2) "المختارين بمقتضى علم الله السابق"- لكن عقيدة الإختيار المسبق في صياغتها الكالفينية ومثيلتها تفصل بين علم الله السابق واختياره فمع ان يعلم بكل شئ ويري كل شئ ولا يوجد امامه ماضي وحاضر ومستقبل ومع ذلك فاختياره لم يكن مؤسسا على علمه السابق[32]. فالماضي والحاضر والمستقبل هو كذلك بالنسبة للإنسان وما سيفعله الإنسان في مستقبله هو موجود بالفعل عند الله الذي لديه حاضر مستمر هكذا خطايا الإنسان المستقبليه وإخياراته هي حضارة أمام الله لذا فبناء على هذا الحاضر الذي امامه هو يختار[33].
(5)                                   " كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده" هكذا تبدأ الأية 28: "للذين يحبون الله" وليس "للذين أحبهم الله"، إختار الله ودعا هؤلاء الذين عرف بعلمه المسبق προέγνω أنهم سيحبونه. يمكن ترجمة هذه الأية بطريقيتين[34] "كل الأشياء تعمل معاً للخير" أو " لأن الله يعمل مع كل الأشياء للخير" (حسب بعض المخطوطات[35]) رج (أف 24:6) " النعمة مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد" و (1كو 3:8) " ولكن إن كان أحد يحب الله فهذا معروف عنده"

ماذا الآن
يقول اغسطينوس " كما أن تذكُرك الأعمال الماضية لم يكن علة لكونها ماضية كذلك علم الله السابق ليس بعله لما هو مستقبل الحدوث"[36].
أسس الله التاريخ البشري حيث يتمتع الإنسان بالقدرة على صنع هذا التاريخ وتحقيقه " فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: «اثمروا واكثروا واملاوا الارض (صنع التاريخ) واخضعوها وتسلطوا (تحكم وتسيير) على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الارض" (تك 26:1-27). لكن الله بعلمه المسبق – حيث لا يوجد لديه زمن- هو سيد التاريخ وهو الذي -في إطار صنع الإنسان وتحقيقه لهذا التاريخ – يحقق مقاصده لخلاص البشرية التي سقطت وفسدت، وهو يحقق مقاصده دون ان يكسر أو يصيَر التاريخ دون إرادة الإنسان لكنه يشارك الإنسان في هذا التاريخ بتدخله المرأي والمعلوم من خلال عمله ومن خلال تجسده بين البشر وهو حتى يستخدم أخطاء الإنسان وشره الذي يصنعه بإرادته لتحقيق تلك المقاصد (رج قصص الكتاب عن يوسف وداود وموسى ...إلخ) وقد جاء تجسده "في ملئ الزمان" أي عندما وصل التاريخ البشري إلي الذروة المناسبه لتدخل الله في التاريخ ومشاركته إياه مع الإنسان.
وهذا يماثل ما جاء في (رو 28:8-29) فالله يجعل كل الأشياء، وليس الأحداث المنفصلة، تعمل معاً لخيرنا، وليس معنى هذا أن كل ما يحدث لنا هو خير، فالشر هو السائد في عالمنا الساقط، لكن الله قادر أن يحوله في النهاية إلى خيرنا. لاحظ أن وعده هذا ليس لكل إنسان، ولكنه وعد يتمسك به فقط كل من يحب الله ويتفق مع مشيئته[37]. وهؤلاء الناس صارت لهم نظرة جديدة وفكر جديد من نحو الحياة. إنهم يتكلون على الله في مشاركته إياهم تاريخهم الشخصي ويطلبون تدخله لأجل خيرهم، يتطلعون إلى أمنهم في السماء وليس على الأرض، يتعلمون تحمل الآلام والاضطهادات على الأرض دون امتعاض لأنها تجعلهم أكثر التصاقا بالله.

لاشك أن الله لا يريد لأحد أن يهلك " وهو لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2بط 9:3) لكن علينا أن نختار " هئنذا أجعل أمامكم طريق الحياة وطريق الموت" (ار 21:8)، "هأنذا واقف على الباب أقرع إن سمع احد صوتي وفتح الباب ادخل إليه وأتعشي معه وهو معي" (رؤ 20:3). هذا يقودنا لمفهوم النعمة الحقيقية، فالنعمة الزائفة[38] هي التي تنادي بأن الله يقبلني كما أنا... أنا مخلص وكفى...لا أستطيع أن أفعل شئ أفضل مما أعمل الآن... الأمر يتوقف على الله، هي نتاج غير مباشر لفكرة أن الله إختار البعض للخلاص والبعض الآخر للهلاك حسب قصده. لكن النعمة الحقيقية تنادي ليس فقط بغفران الخطية بل أيضاً بالتحرر منها[39]، إن الله وحده هو الذي يخلص وهو وحده الذي يهب نعمته للبشرية لكن الإنسان هو الذي يقبل هذا الخلاص بملء حريته، يقول أثناسيوس الرسولي: "عالماً (الله) أن البشر لهم سلطان الإختيار الحر قد يسلكون أحد الطريقيين (الخير أو الشر) فقد سبق الله بالناموس وبالمكان الذي وهبه لهم أن أمن النعمة المعطاة لهم حتى إذا ما حافظوا على هذه النعمة وبقوا صالحين إقتنوا الحياة في الفردوس" (تجسد الكلمة 4:3-5)[40].

علينا إذاً أن نفكر في قضية الإنسان: لماذا خُلق وكيف وعلى أي صورة، والكتاب المقدس يقدم لنا الإجابات الشافية لهذه التساؤلات، وإنطلاقاً من هذه النقطة نستطيع بكل سهولة أن نجد ضالتنا عند البحث عن مدى صدق أي عقيدة نعتنقها.



[1]  لا تحتل هذه القضية أي مركز أو ذكر في التاريخ اللاهوتي قبل أغسطينوس، L.Berkhof, Systematic Theology, EERDMANS, MI 1979, p.109
[2]  ينبع الإهتمام بالنصوص الأبائية من أن هؤلاء كانوا هم الأقرب زمنياً ولغوياً للنص الكتابي وبالتالي هم الأقدر على تحديد معانيه الأصلية
[3]  يوسف رياض، ماهو الحق: الإختيار، مكتبة الأخوة 2001 ص13
[4]  ارمينيوس لاهوتي بروتستانتي هولندي (1560-1609) علم ان النعمة تُعرض على جميع الناس وأن الإنسان يقبلها او يرفضها بفضل حريته، قام تلامذة ارمينيوس بوضع خمس مبادئ في مقابل تعاليم كالفن كالتالي:1.الإختيار مشروط ومزدوج فقد اختار الله الذين عرف أنهم سيؤمنون ورفض الذين عرف أنهم لن يؤمنوا، الإختيار مشروط بقبول الإنسان 2.الإنسان عاجز عن تجديد ذاته دون عمل الروح القدس 3.خلاص الإنسان هو بالنعمة ولكن الدعوة لا ترد 4. كفارة شاملة ولكن الذين يؤمنون يستفيدون منها 5.شك في ثبات القديسيين وتطور نحو السقوط من النعمة والهلاك (رج غسان خلف، عقيدة الإختيار المسبق في التاريخ 2004)
[5]  ظهرت هذه العقيدة قبل كالفن في كتابات أغسطينوس المتأخرة مما أثار إعتراض بلاجيوس لكن الصياغة الرسمية النهائية جاءت مع كالفن ومجمع دورتريخت
[6]  حنا جرجس خضري، جون كلفن حياته وتعاليمه، دار الثقافة 1989 ص206
[7] John Calvin, Institutes of the Christian Religion 3:21-24, E-sword Module (www.e-sword.net)
[8]  حنا جرجس خضري، جون كالفن ص208
[9]  ق.سامي، محاضرات في تاريخ الكنيسة:محاضرة 5، السنة الثانية، كلية اللاهوت الاسقفية 2008، ص6
[10]  توماس ف.توراس، دراسات عن المسيحية في العصور الأولى:الإيمان الثالوثي الفكر اللاهوتي الكتابي للكنيسة الجامعة في القرون الأولى، باناريون 2007، ص29
[11]  توماس ف. توراس، دراسات عن المسيحية، ص29
[12]  "الكلمتان الأساسيتان "صورة  צלם" و "شبه דּמוּת" تحتويان على تشابه خاص بين الله الخالق والبشر وعندما تستخدمان معا فإنهما تقويان التشابه، البشر لايحملون صورة الله فقط لكنهم هم صورته، ومن الضروري ايضا ان نؤكد ان صورة الله تشمل الجسد" (جو كابوليو، لغز الإنسان نظرة مسيحية بعيون إفريقية، دار الثقافة 2007 ص54-55)
[13]  ميشيل ميخائيل، محاضرات رجال ونساء المحاضرة الثانية، كلية اللاهوت الاسقفية 2008، ص3
[14]  جورج حبيب بباوي، حاجتنا إلي الثالوث، coptology 2007، ص31
[15]  بالنسبة لواين جرودم هذه الإصحاحات تؤيد بوضوح فكرة الإختيار المسبق لمن يخُلص Wayne Grudem, Systematic Theology, Zondervan, MI 2000 p.671
[16]  يؤيد هذه فكرة كارل بارت ود.ق. حنا جرجس خضري (رج حنا جرجس خضري، جون كلفن، ص220-231) قامت عقيدة كارل بارت على النقاط التالية: 1.الله هو الذي إختار 2. يسوع المسيح هو الإله-الإنسان لذلك يشارك الله في اختياره من جهة كونه إلهاً 3.يسوع المسيح هو الإله الذي يختار وهو الإنسان المختار لأنه موضوع إختيار الله كإنسان أو من جهة كونه إنساناً 4.ليس الإنسان هو موضوع إختيار الله الأول أو الأساسي 5. يسوع المسيح هو موضوع الإختيار الأول 7.إختار الله يسوع المسيح الإنسان وإختار في المسيح الإنسان كل إنسان يؤمن به "إختارنا فيه قبل تأسيس العالم" (أف 4:1) (رج غسان خلف، عقيدة الإختيار المسبق في التاريخ 2004)
[17]  موريس تاوضروس، علم اللاهوت العقيدي المجلد الثاني،اسقفية الشباب 2006، ص177
[18]  يوحنا الدمشقي ولد في دمشق ودخل دير سان سابا في أورشليم وكان أحد المدافعين عن تكريم الأيقونات توفي حوالي 754م يُعد آخر اباء الكنيسة اليونانية وله مؤلفات عديدة اشهرها "منهل المعرفة" وله اناشيد طقسية لاتزال حية في الكنيسة البيزنطية
[19]  موريس تاوضروس، علم اللاهوت ج2، ص177
[20]  الأب فاضل سيداروس، لاهوت التاريخ البشري، دار المشرق بيروت 1997، ص22
[21]  ريستو سانتالا، بولس الإنسان والمعلم في ضوء المصادر اليهودية، دار الحرية 2007 ص141و157
[22]  يصل الإحساس عند بولس بان وجوده متوقف على إرادة الله ومتعلق بها أقصى درجاته فقد فسر تاريخ شعبه وتاريخ الإنسانية كلها لا منطلق إلهي-إنساني بل من منطلق إلهي بحت، فرؤية بولس لعلاقة الله بالتاريخ البشري مرتبطة إرتباط وثيق بالإسلوب المعجزي الذي دعاه به المسيح فقد أثرت عميقاً في شخصيته ونفسيته، هذا التغيير المفاجئ الذي لم يكن عند بولس أي إستعداد أو تمهيد له. (رج أيضاً موريس تاوضروس، تعيين الله السابق، مكتبة التربية الكنسية ــ197)
[23]  فيرلين د. فيربروج، القاموس الموسوعي للعهد الجديد، لوجوس2007
[24] Thayer's Greek Lexicon, PC Study Bible formatted Electronic Database, Biblesoft, Inc 2006
[25] Greek-English Lexicon Based on Semantic Domain, United Bible Societies, New York 1988
[26] Theological Dictionary of the New Testament, Wm. B. Eerdmans 1989
[27] Theological Dictionary of the New Testament,
[28] Greek-English Lexicon Based on Semantic Domain,
[29] Vine's Expository Dictionary of Biblical Words, Thomas Nelson 1985
[30]  بالرغم من الدلائل اللغوية التي نجدها عن معنى الفعلين وإرتباطهما في اليونانية الكلاسيكية والكتابات الأبائية، أشار كل من Kittle ومحرري Greek-English Lexicon أن προώρισεν تشير للتعيين المسبق إلا انهم لم يوردوا أي دلائل نصية اخرى لهذا المعنى بينما وضعوا اشارات لنصوص كلاسيكية عديدة للمعنى الذي ذكرناه
[31]  موريس تاوضروس، علم اللاهوت العقيدي المجلد الأول،اسقفية الشباب 2005، ص431
[32]  يؤكد واين جرودم على هذا الفصل في عقيدة الإختيار Wayne Grudem, Systematic Theology, Zondervan, MI 2000 p.676
[33] J.Oliver Buswell, A systematic Theology of the Christian Religion, Zondervan, MI 1980 p.47
[34] Peter Misselbrook, Notes on the Greek New Testament, (www.btinternet.com) p.60
[35] P A B 81 cop (eth) Origen2/5, Bruce M. Metzger, A Textual Commentary On The Greek New Testament, United Bible Societies 2nd edition
[36]  ماهر يونان عبد الله،سلسلة حوار الحضارات والثقافات والاديان: جزء 2: الحرية – القضاء والقدر- الخير والشر،القاهرة 2003 ص154
[37]  التفسير التطبيقي للكتاب المقدس
[38] For further study ref. to Dietrich Bonhoffer, The Cost of Discipleship
[39]  يحذر كاتب العبرانيين من النعمة الرخيصة (عب 26:10-27) "فإنه إن اخطأنا بإختيارنا بعد ما أخذنا معرفة الحق لا تبقي بعد ذبيحة عن خطايانا. بل قبول دينونة مخيفة"
[40]  وهيب قزمان، النعمة عند القديس أثناسيوس، مركز دراسات الأباء 1993 ص47-48،
     النعمة في مفهوم أثناسيوس ليست جبرية إلزامية لأحد لكن لكي تصير النعمة نعمة بحق ينبغي فهمها في إطار الحرية، متضمنه كلا من عطاء الله الحر وقبول الإنسان للنعمة بكل حرية

تعليقات

  1. في فصل: ماهية الإنسان
    عندما تسببت الخطية في سقوط الإنسان، لم يفقد صورة الله تماماً- نعم تشوهت لكنها مازالت موجودة- لأن الإنسان لا يصبح إنساناً لو فقد كونه على صورة الله. نعم، بالتأكيد فقدَّ الإنسان الشركة وإنفصل عن الله، لكن بقيت ظلال الصورة الإلهية مطبوعة على الإنسان لأنها جزء من ماهيته.

    انا مش شايف أساس للحتة دي في الكتاب المقدس يامينا ولا انت ايه رأيك؟

    ردحذف
  2. هل عندك لنك لكتاب الأخ يوسف رياض او محاضره صوتيه له عن الاختيار
    اشكرك مقدما

    ردحذف
  3. ممكن تذكر اي كنائس تؤمن بعقيدة الاختيار وشكرا الرب يباركك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.