التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إنجيل يهوذا: دراسة وتحليل

إنجيل يهوذا: دراسة وتحليل
(مينا فؤاد freeorthodoxmind 2007)

قبل البدء في قراءة هذا المقال أنصح بقراءة هذه الدراسة عن الغنوسية أولاً:
إنجيل يهوذا المحتوى:
يُقدم إنجيل يهوذا فكراً غنوسياً خالصاً، فهو يكشف عن مسيحاً آخر، معلماً غنوسياً لاصلة له بيسوع العهد الجديد التاريخى. فيسوع بالنسبة لهذا الإنجيل كائناً خيالياً لاوجود له فى الجسد المادى، يختفى ويظهر بعدة أشكال إذ ليس له هيئة محددة أما بالنسبة للتلاميذ- عدا يهوذا- فهم ليسوا من الإله الحقيقى الغير مدرك، بل من الإله الشرير "الصانع Demiurge(Yaldaboath)" إله العهد القديم، لذا فيسوع يختار يهوذا ليكشف له الأسرار المخفية وحده!!
(تابع بالأسفل)

ويكشف هذا الإنجيل أيضاً أسطورة غنوسية غامضة mystic تتعلق بخلق الكون cosmology تتعدد فيها الآلهة، فهناك الإله الغير المدرك والغير المعروف pleroma، وهناك الإله المولود الذاتى Barbelo، وأيضاً الإله الشرير خالق العالم المادى إله التلاميذ والعهد القديم Yaldaboath، Sakalas، Demiurge، هذا بالإضافة لسلسلة كبيرة من الأيونات والملائكة.
ويتحدث الإنجيل عن شيث Seth- الإبن الثالث لآدم- كتجسد أول للمسيح، فهو كائن إلهى تجسد فى صورة الكائن البشرى.
وفى النهاية – كما نعتقد- يقدم خيانة يهوذا ليسوع كعمل طاعة مقدس تمَّ بناء على طلب من يسوع نفسه، كى يتحرر فى النهاية!!.

هذا التحليل لمحتوى إنجيل يهوذا، دلَّ العلماء أنه عمل غنوسى ربما يكون قد خرج من دائرة إحدى الفرق الغنوسية، والتى تُدعى الشيثيانيين Sethian.
والشيثيانيين هم مجموعة قديمة من الغنوسيين بدأت فى فترة سابقة سابقة لميلاد المسيح، وإتخذوا أفكارهم كمزيج من:
1-   التصور الهيلينستى- اليهودى Hellenistic-Jewish، لصوفيا: الحكمة الإلهية، فصوفيا هى الحكمة الإلهية، والتى تختلف عن الإله غير المُدرك، وهى أم الإله الشرير Demiurge خالق العالم المادى، وهى مُنقذة الشرارة الإلهية داخل الإنسان الذى أُسِرَ فى الجسد المادى.
2-   التفسير المدراشى Midraschic لسفر التكوين وقصة الخليقة، بجانب كتابات يهودية أخرى.
3-   عقيدة المعمودية وممارستها (كطريق للإستنارة).
4-   العقيدة المسيحية عن المسيح.
5-   الفلسفة الأفلاطونية، والأفلاطونية الحديثة  Neo-Platonism حول أصل الأشياء.

ولهذا نجد نفس أفكار إنجيل يهوذا فى باقى الكتابات الشيثيانية Sethian texts، والتى تضم رؤيا آدم، أبوكريفا يوحنا، رؤيا نوريا، وإنجيل المصريين.
وكباقى الأدب الغنوسى، ينتمى إنجيل يهوذا إلى  اللاهوت السلبى (التجريدى) Apophatic(Negative) Theology،  الذى يُعرّف الله من خلال صفات سلبية : فهو غير مُدرك،  غير مُتحرك، غير ملموس، وغير مرئى لكنه – مثله مثل سابِقَهُ  الفكر الشرقى القديم- لايقدم الله من خلال صفات إيجابية أبداً.

ويمكن تقسيم أفكار إنجيل يهوذا كالتالى :
1) الله الآب :
الله الآب هو مصدر المسيح، لكنه فى نفس الوقت منفصل عنه. فالمسيح هو قادم (منبثق emanated) من عند الإله السامى أول إنبثاقات الغير المُدرك Barbelo.
"[قال] له (ليسوع) يهوذا: أنا أعرف من أنت ومن أين أتيت، أنت من العالم الخالد لباربيلو" (إنجيل يهوذا)
ونجد نفس هذه الفكرة فى إنجيل توما الأبوكريفى :"أنا هو الذى نال وجوده من غير المنقسم" (توما 3:61)
لقد ركّز كاتب إنجيل يهوذا على مصدر السيد المسيح، كى يقدمه كمعلم غنوسى وحده يستطيع أن يقدم المعرفة بعكس باقى التلاميذ الذين هم من مصدر آخر.

2) يسوع المسيح :
يبدأ الإنجيل بإستهلال يقدم فيه يسوع كمعلم غنوسى:
"الرواية السرية secret account للإعلان الذى تكلم به اللوجوس ΠΛΟΓΟ[C] (أى يسوع) فى حديث مع يهوذا الإسخريوطى" (إنجيل يهوذا).
الحديث عن "الرواية السرية"، و"الإعلان"، و"الإستنارة" أى " المعرفة γνῶσις"، هو تعبير يصاحب كافة الكتابات الغنوسية، والتى تًقدّم يسوع كمعلّم غنوسى يختص واحد من تلاميذه بنقل المعرفة السرية عن الملكوت والإله غير المُدرك.
وهنا هو يختص يهوذا الإسخريوطى، مثلما فعل مع توما :"هذه هى الكلمات السرية التى فاه بها يسوع الحىّ وكتبها ديدماس يهوذا توما" (إنجيل توما)، ومريم المجدلية: " قال بطرس لمريم: ياأخت أننا نعلم أن الرب قد أحبك أكثر من الباقيين... قولى لنا كلمات المخلص... والتى تعرفينها ولكننا لا تعرفها، ولم نسمع بها. أجابت مريم وقالت ماهو مخفياً عنكم أنا سوف أكرزه لكم" (إنجيل المجدلية 5:5-7).

ويسوع المسيح أيضاً فى إنجيل يهوذا يبدو كأنه "كائن خيالى phantom" ليس له هيئة محددة أو جسد مادى: "وغالباً لم يظهر لتلاميذه كما هو، ولكنه وُجدَ بينهم كطفل" (إنجيل يهوذا)
نفس التصور نجده أيضاً فى إنجيل فيلبس: "لقد أظهر ذاته كملاك للملائكة وللبشر كإنسان" (فيلبس 2:19).
يُقدم إنجيل يهوذا أيضاً معلومات خاطئة عن مكان القبض على السيد المسيح، فهو ليس هنا بستان جثيمانى بل حجرة الضيوف guest room: "تمتم رؤساء كهنتهم لأنه (يسوع) دخل حجرة الضيوف للصلاة... وإقتربوا من يهوذا، وقالوا له: ماذا تفعل هنا؟ أنت تلميذ يسوع. فإجابهم يهوذا كما أرادوا منه وأستلم بعض المال وسلمه لهم" (إنجيل يهوذا).

3) التلاميذ والجيل الفاسد :
يشير إنجيل يهوذا إلى مصدر التلاميذ الفاسد:
"لاتفعلون ذلك لأنكم تريدون، ولكن لأنه بذلك سيُمجد إلهكم"، "إلهكم الذى بداخلكم"، "ليصل الإثنى عشر إلى الكمال مع إلههم" (إنجيل يهوذا)
الإله المقصود هنا ليس هو الإله السامى أو باربيلو، بل هو سكالاس، الإله الصانع، إله العهد القديم الشرير. فالتلاميذ خاضعون له ولسيطرته، لذا فَهمْ لايستطيعون إدراك الأسرار والمعرفة التى يتحدث بها إلى يهوذا.
ويُقدم الإنجيل الغنوسى أمراً آخر عن هذا، فالمسيح يتحدث عن الجيل المقدس (غير الفاسد) incorruptible generation، والجيل البشرى (الفاسد)  human generation. الأجيال المقدسة النقية فقط هى التى ستعود لمصدرها السماوى، بينما ستفنى الأجيال البشرية: (1)
" قال لهم يسوع: ذهبت لجيل آخر عظيم ومقدس. قال له تلاميذه: يارب ماهو هذا الجيل العظيم الأسمى والأقدس منا، والذى ليس من هذا العالم"،
"لماذا تفكرون فى قلوبكم فى الجيل القوى والمقدس، الحق [أنا] أقول لكم، ليس أحد مولود من هذا [الأيون] سيرى ذلك [الجيل]" (إنجيل يهوذا)
-----
(1) يبدو إنجيل يهوذا فى عديد من أفكاره وكأنه يُقدم تفسيرات أخرى لكلمات المسيح للتلاميذ فى العهد الجديد : "فأجاب يسوع وقال لهم أيها الجيل غير المؤمن والملتوى" (لو 41:9)، "جيل شرير فاسق" (مت 4:16)، راجع أيضاً (مت 39:12)، (لو 29:11)، و(مر 38:8).

4) يهـــوذا :
"الرواية السرية للإعلان الذى تَكلَّمَ به اللوجوس (يسوع) فى حديث مع يهوذا الإسخريوطى" (إنجيل يهوذا)
يهوذا إذاً هو التلميذ المختار لينقل له يسوع المعرفة الغنوسية، والإستنارة...
لكن لماذا يهوذا؟؟
يُحتَمَل أن السبب يكمن فى الإسطورة الشيثيانية الخاصة بالخلق. كان سقوط آدم وحواء وخروجهما من الجنة، هو بمثابة تحرر من سلطة الإله الشرير (إله العهد القديم) وحكامه archons، وبمثابة خلاص لهم. وهكذا يبدو أن الأبطال والمستنيرون هم الذين يتمردون على سلطة إله العهد القديم، لذا تَضُم قائمة الأبطال قايين، وقورح، وأهل سدوم(راجع الرسم التوضيحى للمعتقدات الغنوسية فى الفصل السابق)، وهكذا أيضاً يهوذا.
"ولمعرفته ان يهوذا كان يتأمل فى شىء كان مرتفعاً exalted، قال له يسوع :تقدم بعيداً  عن الآخرين وسأخبرك بأسرار الملكوت" (إنجيل يهوذا)
ويهوذا هو التلميذ الذى سيسلم المسيح حسب رغبة يسوع نفسه، فهذا العمل ليس عمل خيانة، بل عمل طاعة (2) ومحبة سيرتفع به يهوذا:
"لكنك ستفوقهم جميعاً، لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى، ها (بالفعل)، قد
إرتفع قرنك، وإضطرم غضبك، وظهر نجمك ساطعاً" (إنجيل يهوذا).
هكذا يقدم إنجيل يهوذا مفهوماً آخر لخيانته التى أصبحت طاعة ومحبة للمعلم.
------
(2) ربما كان ذلك نتيجة التفسير لكلمات المسيح ليهوذا فى العهد الجديد: "قال له يسوع ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة" (يو 27:13)

هناك تساؤل، فى المشهد الأول scene 1، الذى يدعو فيه المسيح يهوذا ليحدثه
حديثاً خاصاً بعيداً عن الآخيرن، يقول له يسوع: "[36] ولكنك ستحزن كثيراً، لأن أحداً آخر سيحل مكانك ليصل الإثنى عشر [تلميذاً] إلى الكمال مع إلههم" (إنجيل يهوذا)
من هو الذى سيحل مكان يهوذا؟!
يقول إريك مادر "هل من الممكن أن يكون المقصود هو بطرس الرسول التابع لإله العهد القديم الشرير، والذى ستعتبره الأجيال البشرية الفاسدة أعظم الرسل، ليأخذ حق الرسول الحقيقى يهوذا؟، أم نفهم أن ’’أحداً آخر’’ سيتسبب فى تشويه صورة يهوذا ليٌعتّبرَ خائناً؟"(6)، أم تُرى هو متياس الرسول الذى تمَّ إحتياره بديلاً عن يهوذا مع الإثنى عشر؟.
سيبقى هذا لغزاً غامضاً لا يعرفه غير كاتب هذا الإنجيل...

5) قيامة الأجساد :
تماماً مثل باقى المعتقد الغنوسى والأديان الشرقية القديمة، ينفى إنجيل يهوذا قيامة الأجساد، ويتحدث عن قيامة للأرواح فقط:
"قال يسوع: ستموت أرواح كل جيل البشر. وعندما يتم هؤلاء الناس زمن الملكوت، ويغادرهم الروح(7) (الشرارة الإلهية) ستموت أجسادهم، ولكن أنفسهم ستظل حية وسيتم رفعهم للأعالى" (إنجيل يهوذا).

6) خلق العالم والملائكة :
من بداية المشهد الثالث scene 3، والفقرة المرقمة [47] وحتى الفقرة المرقمة [55]، يعْرض إنجيل يهوذا الإسطورة الشيثيانية الغنوسية عن الخلق : "قال يسوع [تعال] حتى أعلمك (ليهوذا) [أسرار] لم يرها أحد قط، لأن هناك يوجد عالم عظيم لاحد له، الذى لم ير وجوده جيل من الملائكة قط، [الذى فيه] يوجد [روح] عظيم غير مرئى" (إنجيل يهوذا).
تبدأ الإسطورة بالإله الغير المُدرك والغير مرئى، هذا الإله مرَّ بعدة مراحل من الإنبثاقات emanations، حيث إنبعثت منه عدة أجيال generations، سميت أيونات aeons. أول هذه الأيونات هو باربيلو Barbelo الروح الإلهى المنير المولود الذاتى: "وإنبثق من السحابة ملاك عظيم، الروح الإلهى العظيم المولود الذاتى" (إنجيل يهوذا). وهذا الروح إنبعثت منه أيضاً عدة إنبعاثات أخرى متعددة: "فقال المولود الذاتى: ليات [....] إلى الوجود [....]، وجاء إلى الوجود [....]، ....إلخ" (إنجيل يهوذا).
ويظل الإنجيل يتحدث عن سلسلة الإنبثاقات، وهو سكالاس Sakalas وملائكته: "قال سكالاس لملائكته: لنخلق كائناً بشرياً على شكل وعلى صورة. فشكلوا آدم وزوجته حواء، التى تدعى فى السحابة Zoe(أى الحياة)" (إنجيل يهوذا).
ثم يتحدث الإنجيل عن الشرارة الإلهية Spark of Divinity- الروح المعطاة من الغير المدرك- التى تسكن فى الإنسان، والتى يبحث الإنسان عن معرفتها: "قال يسوع، لهذا أمر الله ميخائيل أن يعطى البشر أرواحاً كإعارة، ليقدموا خدمة، ولكن الواحد العظيم أمر جبرائيل ليهب أرواحاً للجيل العظيم دون حاكم عليها، هذه هى الروح والنفس" (إنجيل يهوذا).

هذه هى مجمل أفكار إنجيل يهوذا، والتى إفترض العلماء أنها تتبع الفكر الشيثيانى- المسيحى Christian-Sethian، وربما قد تتبع أيضاً فكر طائفة sect القاينيين (من قايين ) Cainites (وهم مجموعة خرجت من الفكر الشيثيانى).
إلا أن هناك بعض الأمور التى تبدو فى موضع خاطىء :
1)     الفكر الشيثيانى الخاص بصوفيا (الحكمة) Sophia يقدمها كمقدسة (غير قابلة للفساد) incorruptible، فهى تمثل المنقذة للروح الإلهية فى الإنسان، وهكذا قدمها الأدب الشيثيانى:
"صوفيا الغير قابلة للفساد incorruptible Sophia" (إنجيل المصريين)
"صوفيا التى نزلت فى طهارة innocence، لأجل هذا سميت زو Zoe (الحياة)" (أبوكريفا يوحنا)
لكن إنجيل يهوذا  يصفها "الحكمة الفاسدة corruptible Sophia" (إنجيل يهوذا- فقرة 44)
2)     الأمر الثانى هو العقيدة الشيثيانية الخاصة بالمسيح، هو روح ليس له جسد مادى، وهكذا قدمه إنجيل يهوذا فى بدايته: "وغالباً لم يظهر لتلاميذه كما هو، ولكنه وٌجدَ بينهم كطفل" (إنجيل يهوذا)
لكن الأمر يبدو غريباً حينما يتم القبض على المسيح فى نهاية الإنجيل، فكيف يتم القبض على جسد خيالى؟!!

ربما يكون الإستنتاج الأفضل (حتى الآن)، أن إنجيل يهوذا لا يمثل أدباً شيثيانياً خالصاً، بل ربما يكون عملاً غنوسياً قائماً بذاته كفكر خاص ليس له مثيل بين الأفكار الغنوسية المتعارف عليها، وهذا يُعطى أهمية وقيمة خاصة للمخطوطة.

يهوذا الغنوسي في مواجهة يهوذا العهد الجديد:
1 يهوذا الغنوسى :
إن صورة يهوذا الإسخريوطى Judas Iscariot، التى نعتقد إنها تطل علينا من هذا المخطوط الغنوسى، هى صورة مختلفة تماماً عما عرفناه عن يهوذا العهد الجديد.
يبدو أن  المخطوط يُقدم لنا صورة يهوذا التلميذ المفضل لدى يسوع، ويضع خيانته كإتمام لطلب من يسوع نفسه، فالمسيح هو الذى إختار- هذا التلميذ المُفضّل لديه- لكى يُشرّفه بهذه المهمة: أن يُسلّم معلمه كى يتحرر يسوع من هذا الجسد ويعود للعالم الروحانى الذى أتى منه.

يُقدم الإنجيل الغنوسى ’’يهوذا’’ على أنه التلميذ الأكثر إستنارة، والأقوى والأجدر بين التلاميذ لذا فهو المستحق لإستقبال " المعرفة γνῶσις":
 "قال له يسوع: تعال بعيداً عن الآخرين وسأخبرك بأسرار الملكوت" (إنجيل يهوذا)
"لما رأى يسوع قلة [معرفتهم، [قال] لهم... [فـ] ليأت أى واحد منكم [قوى بما يكفى] بين الكائنات البشرية، ليُخرج الإنسان الكامل ويقف أمام وجهى، فقالوا جميعاً نحن نملك القوة، لكن أرواحهم لم تجروء على الموقف أمامـ[ه]، عدا يهوذا الإسخريوطى، كان قادراً على الوقوف أمامه" (إنجيل يهوذا)
ثم يُصوّر عمل الخيانة betrayal، كعمل إخلاص obedience حسب رغبة يسوع نفسه:
"لكنك (المسيح ليهوذا) ستزيد (ستفوق) عليهم جميعاً لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى" (إنجيل يهوذا)
ثم يتحدث على لسان يسوع عن مكافأة يهوذا عن هذا العمل:
"إرفع عينيك وأنظر إلى السحابة والنور الذى بداخلها والنجوم المحيطة بها النجم الذى يقود الطريق هو نجمك" (إنجيل يهوذا)

هذا التصوّر عن يهوذا، حتى الآن، له مبرره فى الفكر الغنوسى وبالأخص المُعتقد الشيثيانى (والقايينى الخارج عنه)، حيث تُعتبر شخصيات شريرة مثل قايين، وقورح، وأهل سدوم كأبطال من أبطال الغنوسية، فالشر ليس منهم وليس أيضاً من الإله الصالح، لكنه من الإله الشرير خالق العالم الذى قَصَدَ أن يوجد هذا العالم المادى الفاسد ليُسجن فيه الإنسان، وهؤلاء الأشخاص كانوا ضد هذا الإله، والذى قدمه فالنتينوس على أنه إله العهد القديم.
يقول القديس إيريناؤس Irenaeus (130-200م) فى "ضد الهراطقة":
"البعض أيضاً يقولون أن قايين كان من العالم السامى، ويعترفون أن عيسو، وقورح، وأهل سدوم، وأمثال هؤلاء الأشخاص، مختصين بأنفسهم (أى بالقانيين). وعلى هذا، يضيفون، أنهم هوجموا بواسطة الإله الخالق (إله العهد القديم demiurge)، ومع ذلك لم يتعرض أحد منهم للأذى، لأن صوفيا (الحكمة) كان من عادتها ان تفوز بالذين يخصونها منهم لنفسها. ويعلنون أن يهوذا الخائن كان يعرف هذه الأشياء، وأنه هو وحده يعرف الحق كما لم يعرفه أحد، فقد أكمل سر الخيانة. بواسطته كل الأشياء الأرضية والسماوية هكذا وُضعت فى الحيرة، وقد وضعوا تاريخاً مزيفاً من هذا النوع، والذى أسموه إنجيل يهوذا".

2 يهوذا العهد الجديد :
يهوذا إبن سمعان (يو2:13)، أو سمعان الإسخريوطى (يُحتمل أن ’إسخريوطى’ تعنى الذى من ’قاريوت Kerioth’ جنوبى اليهودية) (يو 71:6، يو 26:13).
أول ظهور له كان فى إختيار الإثنى عشر (متى 4:10، مر 19:3، لو 16:6)، وبحسب إنجيل الإثنى عشر الأبوكريفى فالمسيح ربما دعا يهوذا عند بحر طبرية (قارن مع مت 18:4-22)،
ومنذ هذا الظهور لم يُقدم لنا العهد الجديد صورة واضحة عن شخصية يهوذا الإسخريوطى إلا فى الجزء الأخير من حياة المسيح على الأرض، إذ تنكشف شخصيته ومطامعه فقد كان سارقاً لصندوق المال...
يقول إنجيل يوحنا (يو 3:12-6) "فأخذت مريم مناً من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمى يسوع ومسحت قدميه بشعرها. فإمتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطى المزمع أن يُسلمه. لماذا لم يُبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويُعط للفقراء. قال هذا ليس لأنه كان يبالى بالفقراء بل لأنه كان سارقاً وكان الصندوق عنده وكان يحمل (يستولى) مايُلقى فيه".

لكن لماذا أراد يهوذا أن يُسلم الرب يسوع؟
لقد كان يهوذا كسائر التلاميذ ينتظر أن يشرع المسيح فى ثورة سياسية يخلع بها عنهم نير روما، فقد رأى معجزاته وقوته وظن أنه أنه الشخص الذى تتوافر فيه صفات المحرر الثائر، ولا شك أن يهوذا "توقع كباقى التلاميذ (مر 35:10-37) أن يُعطى مركزاً هاماً فى حكومة المسيح الجديدة".
وتقول الخلفية التاريخية التى وصلتنا عن يهوذا الإسخريوطى أنه كان عضواً فى جماعة يهودية من الثوار تعمل لطرد الرومان تسمى ’’حملة الخناجر Sicarri (dagger-men)’’.

لقد "أساء يهوذا وسائر التلاميذ على السواء فهم رسالة يسوع، فقد توقعوا جميعاً أن يقوم يسوع بحركة سياسية تخلصهم من حكم الرومان"، ولما ظل المسيح يتحدث عن المملكة السماوية ربما شعروا بالغضب والخوف والإحباط. لذا كان إمتداح يسوع للمرأة ساكبة الطيب (مت 13:16، يو 3:12-6) - والذى كان يساوى مبلغاً كبيراً- هو النقطة الفاصلة فى مسيرة يهوذا مع المسيح، فلعله أدرك وقتها أن مملكة المسيح لاأمل لها أن تكون أرضية أو سياسية بل روحية بحتة، فوجد أن جشعة للمال والسلطة والمركز لا يمكن ان يتحقق بإتباع يسوع، لذلك إنطلق بعدها مباشرة ليبحث عن المال وإسترضاء القادة الدينيين بتسليم يسوع. ذهب يهوذا لرؤساء الكهنة ليساومهم إذ قال لهم: "ماذا تريدون أن تعطونى وأنا أسلمه لكم" (مت15:26)، فقد حانت اللحظة الحاسمة للمساومة على  المال والسلطة.

كانت خيانة يهوذا مبررة إذاً، فهو لم بجد أملاً فى أن يُحقق له المسيح رغباته.
لقد "جعل موقف يهوذا البعض يتساءل عن مدى عدالة الله فى سماحُه ان يتحمل إنسان واحد هذا الجرم الفظيع"، لكن هناك حقيقة لايمكن أن نغفلها:
لقد إختار بهوذا بمحض إرادته الحرة أن يُسلم إبن الله إلى أيدى الرومان. وبينما كان تسليم يسوع جزء من خطة الله، فليس معناها أن يهوذا كان دُميه فى يد الله. لقد أعلن يهوذا عدم رغبته فى أى مُلك سماوى، لذا كان عليه أن يتحمل تبعات إختياره، فهو الذى أراد ذلك لنفسه، وكان الله سيعلم ما سيختاره يهوذا وسمح به.

وفى واقع الأمر لم يفقد يهوذا علاقته بيسوع، لأنه لم يبدأها على الإطلاق، فمنذ البداية ورؤياه عن المسيا المحرر مختلفة تماماً عن رسالة يسوع. وبالرغم من الشر الذى إرتكبه يهوذا، لم يكن الوقت قد فات بعد ليُعلن توبته ويختبر عطية المصالحة التى قدمها الله فى يسوع المسيح، فقد خان بطرس المسيح أيضاً، لكنه رجع وتاب ليقبل المسيح من جديد.
وكان إختيار يهوذا البائس أن يُنهى حياته ليرقد فى الجحيم.
ويُقدم لنا العهد الجديد فى لغته الأصلية اليونانية صورة واضحة عن إختيار يهوذا:
يقول القديس متى البشير (مت 49:26) "فللوقت تقدم (يهوذا) إلى يسوع وقال سلام يا سيدى وقَبّلَه κατεφιλησεν "
الكلمة اليونانية κατεφιλησεν  تُشير إلى قُبله تحمل مشاعر وعواطف دافئة ظاهرياً وهذا الفعل مركب من ’ κατα’ أى ’يُقبل’ و ’ φιλέω’ أى "يُحب’. وهذا التركيب يُشير إلى أن التحية تتم فى شىء من تأكيد لولاء، أى أن ما تم لم يكُن مجرد قبلة بل سبق ذلك معانقة وإحتضان. بمعنى أن يهوذا يكون قد عانق المسيح وإحتضنه ثم قبله، وكان هذا نوعاً من الخداع، لقد أراد يهوذا أن يقول للمسيح: لقد خيبت أملى وها أنا أنال ما أريد لكن بطريقتى.

لكن فى حقيقة الأمر هذا لم يحدث... لم يهنأ يهوذا بشىء، فسرعان "لما رأى يهوذا الذى أسلمه أنه قد دين، نَدَمَ μεταμέλλομαι" (مت 3:27).
كلمة ’ندم μεταμέλλομαι’ هنا تختلف عن معنى كلمة ’توبوا μετάνοειτε
فالفعل ’ μεταμέλλομαι’ يحمل معنى التغيير بالنسبة لموضوع ما بعد التفكير والإعتناء به، ولكن بمقارنته بالتوبة μετάνοια، فإن هذا الندم لايرتبط أساساً بمسألة أخلاقية أو بالخطأ ضد الله، ولكنه يرتبط بالضيق والألم بسبب نتائج عمل ما.
لقد شعر يهوذا بالذنب نتيجة إدانة المسيح، ربما كان يتوقع أن ينال المسيح البراءة، فجاءت الإدانة صادمة النسبة له، ونتيجة رفضه لكل ماهو سماوى، سيطرت عليه مشاعر الضيق والإختناق فقرر الإنتحار حتى لا يتحمل تبعات عمله أمام عينيه فى صلب المسيح.

3 يهوذا التاريخى :
قدم لنا العهد الجديد يهوذا التاريخى، تماماً مثلما قدم لنا المسيح التاريخى، الذى نستطيع وبكل دقة أن نحدد زمن وجوده فى التاريخ (فهو قد ولد فى عهد هيرودس ومات فى عهد بيلاطس).
لكن إنجيل يهوذا فشل تماماً فى أن يُقدم لنا دلائل على شخصيات تاريخية، فبينما العهد الجديد يٌقدم لنا

عمل الله فى تدبير الفداء وإتمام الخلاص من خلال التاريخ عبر الزمن، يقدم إنجيل يهوذ – مثله مثل باقى الكتابات الغنوسية- أفكاراً وأشخاصاً مجردة من الزمن، لا يمكن ان نتحقق من حقيقة وجودهم فى التاريخ باى صورة من الصور، فقد جعلت الغنوسية من التاريخ ماهو مضاد للغير مُدرك.

لكن هل هذا هو ما قصده إنجيل يهوذا بالفعل ؟!!

هل كنا على خطأ في فهم ما يقدمه إنجيل يهوذا؟

فى نوفمبر 2001، وبعد عدة شهور من الإعلان عن إنجيل يهوذا، عُقِدَ المؤتمر السنوى لجمعية الأدب الكتابى Society of Biblical Literature (SBL) فى العاصمة الأمريكية واشنطن.
فى هذا المؤتمر خُصِصَت جلسة session 19 نوفمبر لمناقشة إنجيل يهوذا، وحضر هذه الجلسة كل من:

1 John Turner, Nebraska-Lincoln University, أستاذ الدراسات الدينية والتاريخ
2 Elain Pagels, Princeton University,
 أستاذة الدراسات الدينية وهى التى قامت بترجمة معظم الأناجيل الغنوسية.
3 Karen Kirg
4 Marven Meyer, Chapman University,
أستاذ الكتاب المقدس والدراسات المسيحية، وهو الذى قام بترجمة النص القبطى لإنجيل يهوذا إلى الإنجليزية ضمن فريق التحرير والترميم.
5 Craig A.Evans, Acadia Divinty College  أستاذ العهد الجديد

كل هؤلاء العلماء هم فى الواقع خبراء فى الغنوسية والقبطيات.

بدأ Craig Evans الجلسة بتعليق للبروفيسير Painchaud، وهو خبير عالمى من الدرجة الأولى فى اللغة القبطية والدراسات الغنوسية. بحسب Painchaud: "إن الإنجيل (إنجيل يهوذا) يُظهر يهوذا كشخص أحمق من باقى التلاميذ، ولا يصوره كالتلميذ الأقرب لفهم يسوع، بل التلميذ الذى خان المسيح نتيجة فشله كلياً فى فهم قصد يسوع، فحينما قال له يسوع ’لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى’ كان التركيز (لغوياً) على كلمة ’إنسان’.
فالغنوسيون يرفضون الذبائح (التقدمات) اليهودية لماديتها، وبينما اليهود يضحون بالحيوانات، فيهوذا سيضحى بإنسان، هكذا يصبح يهوذا قمة المادية الساقطة، لا مثال الحكمة الروحية".

بعد تعليق ’إيفانز’ Evans، قام Turner بإنتقاد ترجمة ’مارفن ماير’ Meyer. فقد عملت ترجمة Meyer الإنجليزية على تقديم يهوذا كتلميذ عظيم، بينما فى الحقيقة النص القبطى يقدمه كتلميذ ملعون لهذه الأسباب:
1)     حينما يُشير إنجيل يهوذا إلى ’المملكة (الملكوت) kingdom’، والتى سيكون ليهوذا فيها نصيب، توحى ترجمة ’ماير’ أنها شىء حسن على غرار الملكوت السماوى فى الأناجيل القانونية، لكن النص القبطى فى الحقيقة يقصُد مملكة سكالاس.
2) فى الفقرة 46، والتى يسأل يهوذا فيها يسوع عن مصيره جاءت ترجمة ماير هكذا:
"What good is it that I've received it? For you've set me apart for that (holy) generation"
   " ما الخير الذى تسلمته أنا؟ لأنك أبعدتنى لأجل هذا الجيل (المقدس)؟"
لكن ’تيرنر’ يصحح الترجمة كالآتى :
"What advantage is it I've gained? For you've set me apart from that (holy) generation"
 "ما الفضل الذى كسبته أنا؟ لأنك أبعدتنى عن هذا الجيل (المقدس)؟"

فى ترجمة ’ماير’ يسوع يُبعد يهوذا عن التلاميذ لأجل  الجيل المقدس set apart for.
أما ’تيرنر’ فيصحح أن يسوع يبعد يهوذا عن الجيل المقدس set apart from.

 3)  فى السطر (الآية) التالى للفقرة السابقة، جاءت ترجمة ’ماير’ هكذا:
"In the last days they'll curse your ascent to the holy [generation]"
   " فى الأيام الأخيرة سيلعنون صعودك إلى [الجيل] المقدس"
   لكن ’تيرنر’ يُصحح الترجمة هكذا:
"In the last days they'll curse. You'll not ascend to the holy [generation]"
   "فى الأيام الأخيرة سيلعنون. أنت لن تصعد إلى [الجيل] المقدس"
  يقول ’تيرنر’ أن هذا الخطأ فى الترجمة جاء نتيجة سوء ترميم للمخطوطة، والذى تم تصحيحة فيما   بعد.
هكذا تكتمل الصورة (أو هكذا نعتقد)، يقول يسوع ليهوذا:’ أنت لن تصعد إلى الجيل المقدس’ فيرد يهوذا ’ما الفضل الذى كسبته أنا لأنك تبعدنى عن هذا الجيل القدس؟’.

4) ويضيف ’تيرنر’ مؤيداً كلامه، أنه فى الجزء الذى يتحدث فيه يسوع عن خيانة يهوذا: "لكنك ستفوق عليهم جميعاً. لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى"،
يقول ’تيرنر’ أن يهوذا سيفوقهم فى فعل الشر، فالفقرة كاملة هكذا: "قال يسوع الحق أقول [لك]، هذا المعمودية [....] إسمى [9 أسطر مفقودة] لأجلى. الحق [أنا] أقول لك، يهوذا، [هؤلاء الذين] يقدمون تضحياتهم لسكالاس [....] الله [3 أسطر مفقودة] كل شىء شرير. لكنك ستفوق عليهم جميعاً. لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى".
لقد كانت الأضاحى (الذبائح) الحيوانية بالنسبة للغنوسيون مادية، تُقدم لسكالاس وتمثل الشر، لكن يهوذا هنا سيفوق التلاميذ شراً إذ أنه سيضحى بإنسان أى قمة المادية.

كانت تعليقات ’تيرنر’ على ترجمة ’ماير’ قاطعة، حتى أن أحد من الجلوس، وحتى ’ماير’ نفسه لم يعلّق أو يحاول الدفاع عن ترجمته،فقد تيقن أنه أخطأ بالفعل، ربما نتيجة للتسرع فى إظهار الإنجيل للنور.

وفى مؤتمر آخر فى بكندا، قام البروفيسير André Gagné- وهو خبير فى اللغة القبطية والكتابات المسيحية القديمة بجامعة أونتاريو بكندا- بالتعليق على ترجمة ماير فى الجزء الخاص بخيانة يهوذا (يمكن الرجوع لتعليقات Gagné على الموقع الخاصة به http://andregagne.ca/):
يقول Gagné:
"لقد أساؤا فهم ’زمن الفعل tense’. لقد كانت الترجمة سريعة وينقصها الدقة فى رأيى، فى النص الذى يقول فيه يسوع ’لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى’، كان يسوع يتنبأ بما سيفعله يهوذا، فقد جاء الفعل ’ستضحى’ فى زمن ’المستقبل الأول future I’، وهذا الزمن فى اللغة القبطية لايُستخدم كأمر أو طلب أو رجاء
مثل زمن ’المستقبل الثالث future III، بل يُستخدم كتنبُّـأ أو توقّع عما سيحدث فى المستقبل. لقد كان يسوع
 يتنبأ بما سيفعل يهوذا".

إلى هنا إنتهت تعليقات Turner و Gagné، ولا تعليق أكثر.

فأياً كان ما يقصده هذا الإنجيل حول "خيانة يهوذا"، فما يعنينا بالأكثر انه غنوسى المحتوى، أى  بعيد كل البُعد عن الفكر الكتابى المسيحى ....


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.