التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأناجيل ككتابات تاريخية ويسوع المسيح: مجموعة أفكار

الأناجيل ككتابات تاريخية ويسوع المسيح
(مجموعة أفكار)

النظرة المسيحية للتاريخ:
 بالتأكيد يمكن قراءة الأناجيل كتاريخ حقيقي، على النقيض الواضح لبعض القصص التي تروي عن بعض الشخصيات البطولية، بل حتى ايضا أنصاف الآلهة والآلهة. تصور الأناجيل يسوع في عالم يومي يمكن إدراكه بسهولة، حيث حفلات الزفاف، والناس يمرضون ويشفون وفي أحيان أخرى أيضاً يموتون[1]. في الواقع لا توجد أية مظاهر خارقة للطبيعة او معجزية، أو أية ملامح أسطورية للمكان والزمان حيث تدور روايات الأناجيل الأربع، كل شئ هو طبيعي ومعتاد بإستثناء يسوع نفسه.


لكن كيف تنظر المسيحية للتاريخ البشري في الأساس؟ أسس الله التاريخ البشري حيث يتمتع الإنسان بالقدرة على صنع هذا التاريخ وتحقيقه " فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: «اثمروا واكثروا واملاوا الارض (صنع التاريخ) واخضعوها وتسلطوا (تحكم وتسيير) على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الارض" (تك 26:1-27). لكن الله بعلمه المسبق – حيث يعلو على الزمن- هو سيد التاريخ وهو الذي -في إطار صنع الإنسان وتحقيقه لهذا التاريخ – يحقق مقاصده لخلاص البشرية التي سقطت وفسدت، وهو يحقق مقاصده دون ان يكسر أو يصيَّر التاريخ دون إرادة الإنسان، لكنه يشارك الإنسان في هذا التاريخ بتدخله المرأي والمعلوم من خلال عمله ومن خلال تجسده بين البشر وهو حتى يستخدم أخطاء الإنسان وشره الإرادي لتحقيق تلك المقاصد (راجع قصص الكتاب عن يوسف وداود وموسى ...إلخ) وقد جاء تجسده "في ملء الزمان" أي عندما وصل التاريخ البشري إلي الذروة المناسبه لتدخل الله ومشاركته تاريخ الإنسان.
ويماثل هذا ما جاء في (رو 28:8-29) فالله يجعل كل الأشياء، وليس الأحداث المنفصلة، تعمل معاً لخيرنا، وليس معنى هذا أن كل ما يحدث لنا هو خير، فالشر هو السائد في عالمنا الساقط، لكن الله قادر أن يحوله في النهاية إلى خيرنا. لاحظ أن وعده هذا ليس لكل إنسان، ولكنه وعد يتمسك به فقط كل من يحب الله ويتفق مع مشيئته[2]. وصارت لهؤلاء الناس نظرة جديدة وفكر جديد من نحو الحياة. إنهم يتكلون على الله في مشاركته إياهم تاريخهم الشخصي ويطلبون تدخله لأجل خيرهم، يتطلعون إلى أمنهم في السماء وليس على الأرض، يتعلمون تحمل الآلام والاضطهادات في هذا الزمان دون امتعاض لأنها تجعلهم أكثر التصاقا بالله.
وهذا هو ما تقدمه وتعكسه الأناجيل.

إن محتوى الأناجيل يحمل نزعة تاريخية قوية، وهي التي تكررت أيضا في كتابات الآباء المبكرين واللاحقين، والذين اكدوا على المحتوى التاريخي للإناجيل، بالإضافة إلي المؤرخين الوثنين الذين أكدوا أيضا بكتاباتهم على تاريخية يسوع واحداث الأناجيل، يتمركز الفكر الخلاصي نفسه في تجسد المسيح في زمان تاريخي، لا في زمان كوني مثل أساطير الديانات الوثنية الأخرى.

يسوع المسيح: تأليه إنسان أم تجسد إله؟
المسيحية تدور حول يسوع، ونقد النقاد أيضاً يدور حول يسوع.
جزء من  النقد الذي قدمه نقاد الكتاب المقدس بداية من القرن الماضي حول تأله المسيح هو ان فكرة تأليه المسيح يمكن ردها للإتصال المباشر بين المسيحيين الأوائل وبين التأثير المباشر من الحضارة اليونانية الرومانية خاصة خارج البيئة اليهودية في فلسطين. يقدم النقاد أدلة من الصفات التي أسبغت على الأباطرة الرومان مثل "الإله"، "إبن الإله"، "الرب"،و "الواهب"، في نقش يعود للقرن الثالث قبل الميلاد نقرأ: "بطليموس المخلص والإله: Ptolemaiou tou swthroV kai qeou"[3]، بل ويمكن أن نرى العديد من النقوش والنصوص التي تحمل هذا المعنى. لكن السؤال الذي نطرحه هو هل يمكن ربط هذه الأفكار عن الألوهية ولاهوت المسيح؟

البعد اللاهوتي في تجسد المسيح:
البعد اللاهوتي للإله المتجسد يتجاوز ما هو أبعد من فكرة "تجسد إله"، فكرة الله المتجسد في الفكر كتابي هي فكرة خلاصية فدائية أي ان هدفها في الأساس فداء وإنقاذ البشرية وهذا الفكر اللاهوتي نلمحه من العهد القديم، والكتابات الرابانية اليهودية، هذا الفكر يختلف تماما من حيث الجوهر مع فكرة تجسد الآلهة في الديانات السرية والفكر اليوناني والروماني، وهذا الطرح أيضا الذي يحمل بعدا خلاصيا في طياته ينافي ايضا فكرة تأليه المسيح، فتأليه المسيح لايقدم أي خدمة للفكر المسيحي الخلاصي الذي يقدمه العهد الجديد.

يمكن إعتبار المسيحية كفلسفة مركبة، على صورة نظم مفصلة من العقيدة وطقوس العبادة، هذه الطقوس عبرت عن كلمة الله وموته على الصليب كنا عُبر عنها في الكتب المقدس، هذه الطقوس بدون هذا الأساس العقيدي هي لاشئ. لكن جوهر وأسس الديانة اليونانية- الرومانية على تمام النقيض: الطقوس، لا تعبر عن نصوص مكتوبة أو شفهية أو عقائد او مبرر فلسفي[4]. في الواقع ايضا الديانة اليونانية-الرومانية مرتبطة بالشعائر والطقوس أكثر منها بالإيمان، وبالأعمال أكثر منها بالإختبار.

كريستولوجيا ما قبل نيقية:
أهم الأسس الذي تقوم الكريستولوجيا الكتابية هو:
1-  "اللوجوس LogoV" أي الكلمة المتجسد (مت 37:5، مت 15:28، مر 15:4، لو 32:4، لو 36:4، 15:5، يو 1:1، 37:4، أع 5:6، اع 22:11، رو 6:6، رو 9:9، 1كو 18:1، 4:2، 2 كو 18:1، 10:10، أف 29:4، 19:6، كو 16:3، 6:4، 1 تس 8:1، 2 تس 8:1، 1:3، 1تيمو 15:1، 2تيمو 9:2، تي 5:2، عب 2:2، 2:4، 1يو 10:1، 7:2، رؤ 13:19، .... إلخ)
2-   "إبن الله υἱὸς τοῦ θεοῦ": في الواقع إن صرخات الأرواح النجسة وهؤلاء الذين بهم أرواح شريرة: "إنك أنت إبن الله Σὺ εἶ υἱὸς τοῦ θεοῦ" (مرقس 11:3، مر 7:5، لو 41:4) لايمكن إعتبارها نابعة عن تأثير وثني، بل هذا اللقب يذكرنا بما هو في قمران في 4Q246[5]  والمعروف بإسم الرؤيا الآراميةAramaic Apocalypse ، والتي يرجع تاريخها لعام 25 ق.م. وهي ترجع إلى أصل يهودي أكثر قدما[6]، النص يتحدث عن إنسان يطلق عليه "إبن الله" أيضا "إبن العلي" و"حكمه سيكون ملكاً أبدياً"، ينظر النص إلي هذا الشخص كمخلص عالمي، هذه الرؤية تؤكد أن فكرة "إبن الله" ليست مستمدة بأي حال من الأحوال من أصول وثنية، من المستحيل أن يطلق اليهود على مخلصهم لقباً وثنياً.

إن تساوي الرؤية اللاهوتية الكتابية بين الله والمسيح الكلمة المتجسد، وهذه هي النظرة التي نجدها ممتدة إلي الأباء الرسوليين وما بعدهم فيما قبل نيقية[7].

تشير رسالة برنابا [يرجح ان رسالة برنابا كتبت بعد دمار الهيكل عام 70م وقبل اعادة بناء المدينة على يد هدريان 132-135م)[8] أن المسيح هو حضور الله على الأرض (رسالة برنابا 3.35-3.37)،وفي برنابا (7.1): " لو، لذلك، إبن الله εἰ οὖν υἱὸς τοῦ θεοῦ، الذي هو الرب ὢν κύριος ومقرر له ان يدين الأحياء والأموات لكي يعطينا بجراحه الحياة، لنؤمن أن إبن الله υἱὸς τοῦ θεοῦ لم يكن ليتألم إلا لأجلنا"[9].

 وتضيف رسالة إكلمينضدس الثانية، هي أقدم عظة يونانية كاملة باقية خارج العهد الجديد[10] ومن المرجح انها كتبت بين 100-120م:
"أيها الأخوة يجب أن نفكر عن يسوع المسيح كما نفكر عن الله
 Ἀδελφοί, οὕτως δεῖ ἡμᾶς φρονεῖν περὶ Ἰησοῦ Χριστοῦ, ὡς περὶ θεοῦ
 كديان الأحياء والأموات. يجب ألا نستهين بالذي هو خلاصنا" (2 إكليمنضدس 1)[11]

تلك الإعترافات الإيمانية لم تكن فقط مجرد كتابات نظرية بل كانت ايضا ممارسات عملية من خلال الليتورجيا ومن خلال المعمودية وإحتفال الإفخارستيا:
أقدم صيغة معمودية قبطية تقول:" أؤمن بإله واحد، الآب كلي القدرة، يسوع المسيح، ربنا"[12]
هناك ايضا صيغة معمودية رومانية[13]  يرجع تاريخها ما بين 125- 135م: "أؤمن بالله، كلي القدرة (الآب)، وبالمسيح يسوع، إبنه الوحيد، الذي يهيمن علينا، الذي ولد من الروح القدس ومن العذراء مريم، الذي صلب في عهد بيلاطس البنطي ودفن وفي اليوم الثالث قام"[14]

لكن ما الذي يجعلنا نقبل الإفتراضات اللاهوتية التي طرحها الهراطقة على أنها الإيمان الصحيح؟ في الواقع لا يوجد أي سبب منطقي، فالإيمان الأرثذوكسي تدعمه شهادات التاريخ واللاهوت وكذلك الإنتشار الجغرافي، بالأخص في القرون الأولى التي كانت المسيحية مضطهدة فيها وبشدة وبالرغم حافظت على نفس الإعترافات الإيمانية التي تسلمتها شفاهة وكتابة من المسيح والرسل[15].
  


[1] Carl R. Holladay, A Critical Introduction to the New Testament: Interpreting the Message and Meaning of Jesus Christ, Abingdon Press 2005, p. 132
[2]  التفسير التطبيقي للكتاب المقدس
[3] Michael Rea, Oxford Readings in Philosophical Theology, Vol. 1: Trinity, Incarnation, Atonement, Oxford University Press 2009, p. 151
[4] Ittai Gradel, Emperor Worship and Roman Religion (Oxford Classical Monographs), Oxford University Press 2002, p. 3
[5] Michael Rea, Oxford Readings in Philosophical Theology, Vol. 1: Trinity, Incarnation, Atonement, Oxford University Press 2009, p. 162
[6] Lawrence H. Schiffman & James C. VanderKam, editors, Encyclopedia of the Dead Sea Scrolls, Vol. 1, Oxford University Press 2000, p. 51
[7] للمزيد عن لاهوت المسيح قبل نيقية يمكن الرجوع إلى: لاهوت المسيح قبل آباء نيقية، أسرة القديس ديديموس، كنيسة الشهيد مار جرجس سبورتنج 2006
[8] Michael W. Holmes, editor and Translator, The Apostolic Fathers: Greek Texts and English Translations, Baker Academic 2009, p. 373
[9] كل نصوص الأباء الرسوليين هي من:
Michael W. Holmes, editor and Translator, The Apostolic Fathers: Greek Texts and English Translations, Baker Academic 2009
[10] Augustine Casiday & Frederick W. Norris, The Cambridge History of Christianity: Vol. 2: Constantine to c. 600, Cambridge University Press 2007, p. 460
[11] The Apostolic Fathers: Greek Texts and English Translations, 3rd Edition, Edited and Translated by Michael W. Holmes, Barker Academics, Grand Rapids: MI 2007
[12] Eberahard Arnolf, The Early Christian in their own words, The Bruderhof Foundation, 2003, p. 107
[13] The sources of this version can be found in Marcellus of Ancyra and in the Psalter of Aethelstan as well as in three versions by Rufinus.
[14] Eberahard Arnolf, The Early Christian in their own words, The Bruderhof Foundation, 2003, p. 109
[15] للمزيد عن هذا يمكن الرجوع إلى: إبراهارد أرنولد، المسيحيون الأوائل، مكتبة المنار 2000،
J.N.D. Kelly, Early Christian Doctrines, Adam&Charles Black, London 1968; Jaroslav Pelikan, The Christian Tradition: A History of the Development of Doctrine, Part 1, University of Chicago Press 1971

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.