التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تحريف الكتاب المقدس : الإفتراضات المسبقة

تحريف الكتاب المقدس : الإفتراضات المسبقة

يبدأ الطرح الخاص بإتهام الكتاب المقدس بالتحريف من إفتراض مسبق وهو أن هناك إتفاق حول مفهوم الوحي بين الأديان. وهذا محض إفتراء!.
مفهوم الوحي في اللاهوت المسيحي يختلف كليًا عن نظيره في الفكر الإسلامي، وأعني هنا وحي النصوص المقدسة وليس كل وحي بشكل عام.

الفكر الإسلامي يقترح وحيًا لفظيًا: فالقرآن في الأساس كان موجودًا في لوح محفوظ قبل خلق العالمين [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ] [البروج: 21-22]، حتى أن الفلاسفة المسلمين إختلفوا عما إذا كان القرآن مخلوق أو غير مخلوق، المهم، ومن اللوح المحفوظ وبواسطة جبريل إنزل على قلب رسول الإسلام بلفظه وإعرابه وشكله ومنطوقه: [ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ][ الشعراء192-195]. هو وحي إملائي لفظي إذًا لم يتدخل الرسول في شئ منه غير إستقباله ونقله كما هو للناس. ولو تتبعنا التاريخ الديني لفهوم الوحي هذا سنجد ان هذه الفكرة قد بدأت مع أفلاطون ونقلها عنه فيلو... إلخ

لكن الوحي في اللاهوت المسيحي يختلف كل الإختلاف عن هذا المفهوم، يبدأ مفهوم الوحي من الإعلان Apokalypsis، وهو الإعلان الإلهى فى الأسفار المقدسة هو إعلان الله للبشرية، يعلن فيه عن ذاته وإرادته كخالق الكون ومحركه ومدبره. ومن ثم يتضمن الإعلان كشف الأسرار المجهولة بالنسبة للإنسان، المحدود فى كل شىء.... الأسرار التى يريد الله ذاته الإعلان عنها للبشرية. الإعلان هو عمل الله المباشر الصادر من الله وحده، يكشف به عن ذاته وإرادته للبشرية( أى كشف حق إلهى للنبى)، ويليه الوحى وهو عمل الروح الإلهى فى النبى وإرشاده إرشاداً خاصاً ومن خلاله يسلم النبى ماتسلمه من الله للآخرين بدون خطأ.
بصورة أخرى: الأمر بهذا الترتيب: الله- الإعلان- الأنبياء- الوحي- الإنسان
إذَا الوحي هو هو إعلان الحق الإلهى بواسطة بشرية، وبكيفية ما كان الروح القدس يوصل بها الحقيقة إلى ذهن الكاتب الذى كان يقوم بالتدوين.

تعليق قبل أن أستكمل: جزء من مشكلة تعريف الفارق بين مفهوم الوحي في اللاهوت المسيحي وبينه في الفكر الإسلامي، هو اللفظة العربية "وحي"، كما قدمه لنا ابن منظور فى " لسان العرب" تحت باب (وحى): " أشار إلى، كلم بالسّر، ألهم، وضع فى قلبه أمر. وأوحى تعنى: كلمه كلاماً". بينما الكلمة فى اصولها العبرية و اليونانية( لغات الكتاب المقدس الأصلية) تحمل معانى تختلف عن هذا التعريف.

نعود لتعريف الوحي، نحن نؤمن ان الله تكلم بطرق مختلفة ومتنوعة إلى البشر فى كل عصر وكل مكان. وعندما قام هؤلاء الكُتّاب بكتابة الرسالة كان روح الله يرشدهم ويحفظهم من الخطأ. ولكنه ترك لهم حرية التعبير، واستخدم الإمكانيات البشرية المختلفة لكل كاتب، فعبر كل منهم بالإسلوب الذى يتميز به. لقد أوحى الله للكُتّاب بالمعانى التى يريد أن تصل للبشرية، وترك التعبير عنها للإسلوب البشرى، لأنهم بشر وكانوا يكتبون لبشر مثلهم بهذا استخدم كا كاتب إسلوبه الخاص وتعبيراته المحببه له.
الإنسان هو لغته كما يقول إمبيرتو إيكو، كان كتبة الأسفار المقدسة مسوقين من الروح القدس الذى استخدم مواهب واسلوب كل واحد. وهنا نرى العمل المزدوج، فإن روح يقنع ويرشد ويحفظ من الخطأ، ويبارك الإرادة البشرية والعقل البشرى ليقوم الإنسان بعد ذلك بالكتابة عما آمن به وما أرشده إليه الروح" فهو " يعلمكم كل شىء ويذكركم بكل ما قلته لكم" ( يو 14 : 56).

أنقل قصة تشرح الأمر بمفهوم روحي بعض الشئ كي تعرف كيف يُفكر اللاهوت المسيحي عن الوحي: تقول القصة: " أن الأب أراد يوماً أن يعُبّر لإبنه الصغير عن حبه ورغبته فى تلبية كل ما يتمنى، فأعطى الولد حفنة أوراق نقدية... ولكنها تنتمى لبلد أجنبى... وقال للولد: اشتر كل ماترغب... وكانت المفاجأة!! فقد نظر الصغير إلى الأوراق النقدية ذات الرسوم الغريبة، ولم يع كم تساوى، ولم يعبأ بماذا يمكنها أن تفعل... ومزقها، فقد كانت غريبة بالنسبة له وغير مألوفة... فهى ليست مثل تلك النقود التى اعتاد أن يأخذها لشراء الحلوى!!".
ان أمر هذا الصغير ووالده، لا أظن أننا نألفه فى حياتنا اليومية، فنحن البشر حين نسعى لاهداء صديقاً نحرص ألا تكون الهدية خاوية من المعنى بالنسبة له!!"..
هكذا الله أيضاً فى تعاملاته معنا لم يشأ أن يبلغنا رسائل من خلال كلمات مبهمة، غريبة عن ثقافة الإنسان، بل أراد أن يشرك الإنسان فى توصيل إعلاناته، فلا يكلمه كلاماً إلهيا لايفهمه بل يترك الإنسان يعلنه بكلماته البشرية فى شخص الأنبياء.
فالكتاب المقدس ليس كلاماً إلهيا فقط بل متجسداً أيضاً فى كلمات بشرية، هذه الثنائية الخطيرة تنقلنا إلى تداخل حىّ يحترم فيه الله وضع الإنسان الراهن وينيره من الداخل دون أن يلغيه أو يقفز فوقه.

لحظة المفهوم لم يكتمل بعد، الوحى ليس ثنائياً فقط بين الله والأنبياء، بل هو أمراً ثلاثياً مابين الله والانبياء والإنسان الذى يقرأ الكلمات الإلهية، ان النظرة الخاصة بالوحى الثلاثى تقدم لنا الاسلوب الأمثل لفهم الكتاب المقدس فى كل العصور وكل الأزمان.
فالكتاب المقدس هو إعلان الله المقدم للبشر، ولايمكن أن تكتمل دائرته( الله- الإعلان- الإنسان) بدون الإنسان ..... والكتاب هو رسالة من الله وسيلتها الأنبياء، ومُستقبِلها الإنسان، ولن تكتمل الرسالة دون أن يستقبلها الإنسان.
قال أحدهم: " الله ليس فكرة تُدرك بل شخص يلاقى".... إن غاية الله للبشرية هى الإلتقاء مع الإنسان ذاته، وهذا هو هدف إعلانات الله، أن يعرفه الإنسان ويعرف تدبيراته وإرادته، لذا فعندما أعلن الله عن نفسه فى الكتاب المقدس أعلنها بالإنسان وللإنسان، وهذه الحقيقة أدركها الإنسان منذ البدء، يخاطب زرادشت إلهه قائلا:  بأى قوة إن لم يكن بقوتك أستطيع نشر كلمتك!!"....
فالله فى تعاملاته مع البشر لا يقدم إعلاناً مبهماً ويطلب من الإنسان أن يشخص إلى أعلى ليصل إليه، فهذا ليس مقصد الله نحونا إنما هو يسعى للوصول إلينا خلالنا...وهذه غاية الوحى.
هذا هو فك الأشكالية، نحن نتكلم عن وحي والآخرون يفهمون وحيًا آخر غير الذي نقصده..

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.