التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كيف نتعامل مع التفسيرات الكتابية والخبرات الروحية في كتابات الأباء؟

الكتابات الأولى: الأباء الرسوليين
تُعتبر كتابات "الأباء الرسوليين" هي بداية الأدب المسيحي المبكر الخاص بالأباء، وهذه الكتابات بالرغم أننا لا نعرف على وجه اليقين كثير من مؤلفيها (مثل رسالة برنابا والرسالة إلى ديوجنيتوس وراعي هرماس) إلا أننا نستطيع أن نتفهم أسباب كتابتها. فهذه الكتابات الأولى كُتبت من أجل أسباب رعوية وحل مشكلات عملية ولم تكتب من أجل أسباب عقائدية أو لاهوتية، فكليمنضس الروماني يكتب رسالته الأولى لكنيسة كورنثوس لحل مشكلة تمرد وعصيان داخل الكنيسة، ويكتب بوليكاربوس لكنيسة فيلبي لأجل حل مشكلات أخرى في هذه الكنيسة ...إلخ. تميزت هذه الكتابات أيضًا (خاصة هاتين الرسالتين) بأن  نمط كتابتها هو نمط إقناع persuasion وليس نمط أمر command (في ختام رسالة كليمنضس الأولى في 58.2 يقول لهم "إقبلوا نصحنا ولن تندموا").

بإختصار، هذه الكتابات هي وليدة إحتياجات رعوية وخبرات معينة أدت إلى كتابتها، وفي طريقة مناقشتها لتلك الإحتياجات إستخدمت تلك الكتابات سياقها الخاص الزمني والثقافي الذي نشأت فيها، فكليمنضس الروماني على سبيل المثال حينما يتحدث إلى أهل كورنثوس عن التناغم والوحدة، يستخدم النظام والترتيب الخاص بالجيش الروماني كمثال ويتحدث عن النموذج الكوني للتناغم والسلام (رج الفصل 20 وما بعده من الرسالة). كان هؤلاء رجال بسطاء محبين للتقوى كرسوا حياتهم لمخلص حي يحيا فيهم وهم يحيوا به وفيه ومن أجله، هي كتابات بسيطة لا تحمل أي تعقيد.
يكتب الأب مايكل كاسي Michael Casey قائلاً: "لقد كتب الأباء ليساعدوا الآخرين ليقتربوا فيتلامسوا مع تعاليم المسيح... لم يكن اللاهوت وظيفة ولا عملاً في الألفية الأولى. ولكنه كان مصاحبًا وملازمًا للعمل الرعوي... إنطلاقًا من تلك الرؤية فإن النصوص التي دًونت كانت نابعة من الواقع ولها سمة الإختبار والبعد التطبيقي".[1]

التفسيرات الكتابية
إن التفسيرات الأبائية للكتاب المقدس تعود الي تلك الحقبة الفريدة من تاريخ البشرية التي انصهر فيها التراث اليوناني-الروماني بالتقليد اليهودي والكتابي، مما أتاح للكتاب الأوائل أن  يقدموا تفسيراتهم باسلوب عميق ومتميز. لكن لم يَدّع أحد من الأباء أن تفسيراته مطلقة ونهائية. بل على العكس، على سبيل المثال الشارح العظيم للكتاب المقدس كيرلس السكندري لا يزعم أبدًا ان تفسيراته نهائية ومطلقة؛ فهو كثيرا يستخدم عبارة "أعتقد" (رج تفسيره لإنجيل يوحنا) وفي مواضع اخرى يقول "وأعتقد –وعلى محب الحكمة أن يبحث عن شئ [أي تفسير] آخر أفضل- أنه بالأرغفة الخمسة يشير الكتاب إلى ..." (يو 11:6)[2]؛ ويقول في موضع آخر "...لأني كما أظن فإن هذا هو المعنى الذي ينبغي ان نضعه لهذه الكلمات." (يو 28:8).[3]

كيف نتعامل مع  هذا الجانب في كتابات الأباء؟
كتابات الأباء هي المصدر الرئيسي لمنطوقات الإيمان في القرون الأولى، فضلاً عن كونها نماذج نستقي منها طريقة معالجة المشكلات والقضايا الرعوية والإيمانية التي واجهوها، كما نستطيع أن نفهم منها كيف نظروا إلى الكتاب المقدس وفسروه في ضوء خبراتهم الحياتية والثقافية الخاصة. وبالتالي فهي تقدم لنا دروسًا حياتية عميقة وخبرات روحية يجب أن نستخدمها لا كما هي بل كدليل وكمرشد في تطبيقاتنا الحياتية الخاصة اليوم، فمحاولة تطبيق خبرات روحية وحياتية ذات سياق معين وظروف نشأت فيها بحرفية اليوم بالتأكيد لن تنجح، لكن إستخراج تطبيقات معاصرة من سياق وظروف اليوم مع إستخدام كتابات الآباء كمرشد ودليل هي الأمثل والأصلح. على سبيل نستطيع أن نتعلم جيدًا من كليمنضس الروماني وبوليكاربوس كيف تعاملا مع مشكلاتهم الرعوية بإسلوب معاصر (لوقته)، لكننا بكل تأكيد ربما لن نستطيع تطبيق نفس طريقة الحل.

كذلك بالنسبة للتفسيرات الكتابية، فهذه الكتابات وليدة عصرها وظروفها الخاصة، خاصة فيما يتعلق بالتفسيرات الرمزية، لا أقصد بذلك أننا يجب نرفض هذه التفسيرات؛ بل على العكس، نقبلها لكن في ضوء فهمنا لعصرها وظروف كتابتها وبينما نطور نحن تفسيرات كتابية في ضوء العلوم اللغوية والتاريخية والنقدية التي لدينا اليوم.
فالكتاب المقدس هو صالح لكل العصور وهذا يعني أنه يمكن قراءته في كل عصر وفهمه في ضوء وظروف كل عصر، إن قصر فهم الكتاب المقدس على عصر واحد فقط أو عصور محددة بعينها يجمد الكتاب المقدس عند تلك العصور.
لكن الفهم العصري الصحيح للكتاب هو فهم تراكمي ممتد منذ الجيل الأول وحتى اليوم، فبينما يفسر كيرلس السكندري الكتاب المقدس فهو يضع نصب عينيه تفسيرات أثناسيوس واوريجانوس ومن سبقوه، وبينما يفسر اغسطينوس أيضًا الكتاب فهو يتحدث عن ويسترشد بهؤلاء الذين سبقوه، لكنهم أيضًا في ذات الوقت (أي كيرلس واغسطينوس وغيرهم) ينتجون تفسيرات نابعة ليست فقط من الذين سبقوهم بل أيضًا من سياقات عصورهم الثقافية والحضارية؛ علينا إذًا نحن اللاحقون أن نتعامل بنفس المنطق الذي تعامل به الأباء مع الكتاب المقدس، أي ننتج تفسيراتنا المناسبة والنابعة من عصورنا لكن مع الكتابات السابقة للعصور الماضية نصب أعيننا.



[1]  سيرافيم البراموسي، من هم آباء الكنيسة، دير السيدة العذراء برموس 2010، ص49
[2]  كيرلس السكندري، تفسير إنجيل يوحنا، الجزء الأول، المركز الأرثوذكسي للدراسات الابائية، ص330
[3]  كيرلس السكندري، تفسير إنجيل يوحنا، الجزء الأول، المركز الأرثوذكسي للدراسات الابائية، ص580

تعليقات

  1. thank you Mr Mina Fouad for this valuable information , it would be great if we can get touch
    thank you

    ردحذف
  2. شكرا لكم وأرجو التواصل معكم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

الثاليا: قصيدة آريوس، مقدمة وترجمة

الآريوسية هي المسيحية الحقيقة: "المسيحية الموحدة بالله"، قَدَمَ هذه الفكرة أحد الكتاب المصريين ونشرها في احد الجرائد الرسمية، وكتب عدة مقالات متفرقة عنها. ووصف آريوس والآريوسيين بالـ "مسيحيين الموحدين بالله"، وكان القصد من ذلك الإشارة أن المسيحية الأرثوذكسية التي واجهت للآريوسية لم تكن موحدة بالله لوجود فكرة الثالوث ، وان آريوس – كحامل للمسيحية الصحيحة- قدم المسيح كإنسان ونبي. لكن في مجمع نيقية تم الحكم على آريوس ظلمًا وإختراع فكرة الثالوث وتأليه المسيح.