التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الصلاة على المنتحر... قراءة أرثوذكسية معاصرة

مينا فؤاد توفيق- عماد عاطف

مقدمة لابد منها
في الآونة الأخيرة، إزدادت حالات الانتحار في المجتمع المصري حتى وصلت في سبتمبر الماضي 2014[1] الي خمسة عشر  (15) حالة، تضمنت حالات متعددة (آخرها في هذا الشهر نوفمبر) لأشخاص مسيحيين. و بالتالي، تبع الأمر إعادة إستحضار اسئلة قديمة مُتعلقة بالصلاة على المنتحر: هل تجوز أم لا؟!. 
من هذا المنطلق، رأينا أن نحاول تقديم إجابة نابعة من رؤية معاصرة لهذا التساؤل.
لكن قبل أن نبدأ، وجب علينا أن ننوه أن ما نطرحه في هذ االمقال ليس جوابًا أخيرًا و لا هو الكلمة النهائية للكنيسة. لكنه محاولة للاجابة و أيضًا محاولة لمساعدة للكنيسة لتقديم إجابة، تأتي في إطار قراءة معاصرة راعت فيما راعته متغيرات هذا العصر النفسية والسيسولوجية، وتحديدًا تلك الدراسات الخاصة بالطب النفسي وعلم النفس التي كشفت عن أمور كثيرة لم تكن مكشوفة للأقدمين عن الإنتحار والمنتحر.
 هذه المحاولة نضعها أمام الله و الكنيسة لعلها تساعد الكنيسة في تقديم صورة الله الحية المعزية في عصرنا الحاضر والمؤلم، وتعينها في إتخاذ قرارات ربما تغير الكثير في رؤيتنا للاهوت الأرثوذكسي المعاصر.


قبل أن نبدأ أيضًا، نود أن نقدم الثوابت التي نتبناها هنا:
1- نؤمن بمعيارية/ أولية الكتاب المقدس في الأمور اللاهوتية و الأخلاقية.
2- نؤمن بعمل الروح في الكنيسة على مدار تاريخها، و في لاهوتييها و في مجامعها بما يتناسب وكل عصر.
3- نؤمن أن اللاهوت في أساسه لا ينفصل عن الحياة و أن دور اللاهوت الرئيسي هو الإجابة عن تساؤلاتنا الإنسانية و تقديم المسيح كإجابة لهذه التساؤلات. فاللاهوت هو لخدمة الانسان، كما عبّرَ الأسقف ديزموند توتو قائلاً "الانسان لم يُخلق لعلم الاهوت، بل علم اللاهوت ابدعة الانسان"، و هو المبدأ الذي دفعنا لنتناول هذا الموضوع الشائك.
4- نحن نُقر أن الإنتحار الواعي هو خطيئة و مرفوض من قِبَل الكنيسة، لكننا أيضًا نُفرّق بين الإنتحار كخطيئة و بين المنتحر كإنسان ارتكب خطيئة ما (و هي الانتحار هنا)، و ما إذا كان من المقبول أن تُصلي الكنيسة عليه أم لا.
رؤى متعددة للإنتحار
الكتاب المقدس
ذكر الكتاب المقدس 5 حالات انتحار و هي:
1- أبيمالك (قض 54:9) (طلب من الغلام أن يقتله و لكنه لم يقتل نفسه بيده، هذه الحالة ربما تتشابه مع حالات الموت الرحيم)
2- شاول (1 صموئيل 31:4، 1 أخبار 4:10) إنتحر بالسيف،
3- أخيتوفل (2 صموئيل 23:17) إنتحر شنقًا،
4- زمري (1 ملوك 18:16) إنتحر حرقًا،
5- شمشون (قضاه 30:16) (بالطبع كان عمل شمشون عملاً ايجابيًا و ليس سلبيًا، و لكننا ذكرناه لانه عمل قام الانسان فيه بالقضاء على حياته)
6- يهوذا الاسخريوطي (متى 3:27-5) إنتحر شنقًا،
7- حافظ السجن (أعمال 28:16) حاول أن ينتحر و لكن بولس الرسول منعه (ذُكرأن هذا الفعل ردي)
نلاحظ أن الكتاب يذكر أن الانتحار شيئاً ردياً، و بذلك فهو خطية، و لكن لا يوجد أي موضع من المواضع يذكر فيه الكتاب  المقدس أن الانتحار خطية ستؤدي بمرتكبها إلى الجحيم، لكن الكتاب في الوقت ذاته يؤكد على الغفران الذي هو بدم يسوع المسيح الذي يطهرنا من كل خطية.

النظرة الأبائية
رفض كثير من أباء الكنيسة فكرة الإنتحار، على سبيل المثال: أغناطيوس الانطاكي (الي رومية 1:4ف، 2:5ف)، لاكتانتيوس (Div. inst iii.18)، يوحنا ذهبي الفم (De consolation Mortis)، جيروم (Comm. Ad. Matt 4.17)،  أغسطينوس (Civ. Dei 1.4-26).
و من المجامع مجمع (Gaudix (305، و قرطاجة (348م) و (Barga (563.

لكن، يشير داريل و. اماندسن  "لا يوجد أي دليل عن وجود أي كتابات مسيحية في أول 250 عامًا للمسيحية تُشير أن هناك أي مسيحي تحت أي سبب قد قام بالانتحار. بإستثناء يهوذا و هو الاستثناء الوحيد"[2]، و يضيف أن هناك مؤلفين مسيحين آخرين قد رفضوا الانتحار مثل "كليمنضس، كبريانوس، يوستينوس الشهيد، الرسالة إلى ديوجنيتوس، العظات المنسوبة لكليمنضس، وترتليان." [3] و هو ما يؤكد أن المسيحية منذ نشأتها تقدر الحياة كهبة من الله.

 و لكن نشأة الإعتقاد بأن الانتحار هو "الخطية التي لا تُغتفر" جاءت متأخرة. يرجع إعتبار الإنتحار خطيئة لا تُغتفر يرجع إلى القرن الخامس الميلادي في عهد القديس أغسطينوس[4] في جدالة مع الدوناتيين.[5] من ذلك الوقت [وقت أغسطينوس راح لاهوتيو الغرب يعتبرون الانتحار بمثابة جريمة[6] حتى أحلوها محل الخطيئة الوحيدة التي لا تُغتفر و هي التجديف[7] على الروح القدس."[8]  
تطور هذا الموقف في الشرق أيضاً تحت تأثير بطريرك الإسكندرية البابا تيموثاوس الأول (381-385) فقال في القانون رقم 14 "لا يجب أن تقدم القرابين لأجل راحة نفس المنتحر ما لم يتم التثبت بوضوح أنه كان مجنوناً بالفعل عندما أقدم على فعلته."[9] و ورد نفس الأمر في الـ Nomocanon. يُعبر N.D. Patrinicos  عن توافق الكنائس الأرثوذكسية في يومنا الحاضر بأن لا تقام خدمة الجناز أو الدفن أو الذكرانيات للذين قطعوا انفسهم بإرادتهم الخاصة، عن شركة الكنيسة. [10]

هناك أيضًا قصة لافتة للإنتباه نقرأها في بستان الرهبان:  بستان الرهبان قول 735:
"735 - قال القديس قاسيانوس الرومي: «كان إنسانٌ شيخٌ اسمه إيرنيس، هذا منذ أيامٍ قلائل، كابدَ سقطةً يُرثى لها قدام أعيننا، إذ هزأت به الشياطين، فهبط من تلك الرفعةِ إلى قعرِ الجحيمِ بسببِ شظفِ الطريقِ الذي سلكه، إذ سكن البراري مدة خمسين سنةً مستعملاً تقشف السيرةِ والنسك، طالباً أبداً أطرافَ البريةِ والتفرّدَ أكثر من كلِّ أحدٍ، فهذا بعد الأتعابِ الكثيرةِ، تلاعب به إبليسُ وطرحه في سقطةٍ ثقيلةٍ، وسبَّب به للآباءِ القدماء الذين في البريةِ ولكلِّ الإخوةِ مناحةً عظيمةً، ولو أنه استعمل الإفرازَ لما لحقه ما قد لحقه. وذلك أنه تبع فكرَه في الأصوامِ والانفرادِ بعيداً عن الناسِ لدرجةِ أنه حتى ولا في يومِ الفصحِ المجيد كان يجيء مع باقي الآباءِ إلى الكنيسةِ كي لا يضطره الحالُ إلى أن يأكلَ مع الآباء شيئاً مما يوضع على المائدةِ، مثل قطاني أو غيره، لئلا يسقط عن الحدِّ الذي حدَّده لنفسِه من النسكِ، فهذا ظهر له الشيطانُ بشبهِ ملاكِ نورٍ، فسجد له وأقنعه أن يرمي نفسَه في بئرٍ عميقةٍ ليتحققَ عملياً عناية الله، وأنه لن يلحقه ضررٌ عظيمٌ لعِظم فضيلتهِ، ولما لم يميز بفكرِه من هو هذا المشير عليه بهذه المشورةِ لظلامِ عقلهِ، فطرح نفسَه في بئرٍ في منتصفِ الليلِ، وبعد زمانٍ عرف الإخوةُ أمرَه، وبالكدِّ والتعبِ الكثيرِ انتشلوه وهو بين الحياةِ والموتِ، ولم يعش بعد ذلك سوى يومين ومات في اليومِ الثالثِ، وخلَّف للإخوةِ حزناً ليس بقليلٍ. أما الأب بفنوتيوس، فلما بعثته محبتُه للبشرِ، أمر بأن يُقدَّم عنه قربانٌ مثل المتنيحين، ذاكراً أتعابَه الكثيرة وصبرَه على شقاءِ البريةِ».
لاحظ أنه كان من الممكن أن يقول الأب بفنوتيوس ان الشيخ ايرنيس قد إنتحر ولا يجب الصلاة عليه!!

الكنيسة إذًا على مدى تاريخها و هي ترفض فكرة الإنتحار وتعتبره خطيئة معتمدة على مقدمتان اساسيتان و هما: الأنسان مخلوق عل صورة الله مدعو ليكون على مثاله، و الاقتناع أن الحياة هي هبة من الله؛ لكن إعتبار الإنتحار خطيئة بلا مغفرة أي تؤدي للجحيم هو أمر متأخر .

رؤية الكنيسة الكاثوليكية الآن
تقول الكنيسة الكاثوليكية في التعليم الكاثوليكي الرسمي Catechism of the Catholic Church في المواد أرقام 2280-2283 في الفصل المتعلق بالانتحار: [11]
2280. كل شخص مسئول عن حياته أمام الله التي أعطاها له. فالله وحده يبقى له السيادة كسيد على الحياة، يجب علينا أن نقبل الحياة شاكرين و نحافظ عليها حفظاً لكرامة الله و خلاصاً لارواحنا. فنحن وكلاء و ليس مالكين للحياة التي عهدها الله إلينا، و ليس لنا أن نتخلص منها.
2281. الانتحار يتناقد مع الميل الطبيعي للبشرية للحفاظ على الحياة و  إدامتها. كما إنه متناقد بشدة مع حب المرء لذاته. و هو  أيضاً يُسئ لحب الجار، لأنه يكسر الرباطات المتماسكة بطرقة غير عادلة بين الأسرة و البلد و المجتمعات الانسانية الاخرى التي نستمر في إلتزامنا إليها، فالانتحار هو النقيض لحب الله.
2282. فإذا تم الانتحار بقصد أن تكون مثلاً، و خصوصاً للصغار ، يُعتبر هذا الأمر إنحدارًا نحو العار، فالتطوع للمساعدة على الانتحار هو على نقيض القانون الأخلاقي.
الإضطراب النفسي الشديد، الإكتئاب، الخوف الشديد من الألم، المعاناه أو التعذيب من الممكن أن تُقلص مسئولية المرء على الانتحار.
2283. يجب ألا نيأس من الخلاص الأخير للشخص الذي أقدم على إنهاء حياته بنفسه،. فالله وحده بطرق يعلمها وحده من الممكن أن يعطي فرصة للتوبة. و الكنيسة تصلي للأشخاص الذين أقدموا على إنهاء حياتهم بنفسهم.
نظرة الإنسان وتفاعله مع  الحياة
الإنسان والوجود الإجتماعي
يقول الأب جان باول اليسوعي: "أنت وأنا ننظر إلى واقع الحياة، إلى أنفسنا والآخرين، إلى الحياة وإلى العالم والي الله. ولكننا نبصر هذه الأمور كلّ على طريقته. رؤيتك للحياة ليست رؤيتي، والعكس صحيح. لرؤية كل منا حدودها وشوائبها، وكل منا شوّه حقيقة الواقع على طريقته الخاصة"[12]. وبالتالي، فردّات أفعالنا العاطفية ليست قسمًا ثابتًا من كياننا، بل انها تنبع من نظرتنا الي انفسنا، الي الآخرين، والي الحياة والعالم والله. هذه النظرة تتحوّل الي محور للحياة في اطاره نعمل ونتحرك[13]، وبقدر ما تتدمر هذه النظرة وتصبح  الحياة صعبة الفهم والإدراك وتفقد معناها بقدر ما يكره الإنسان هذه الحياة ويرغب في الخروج منها

يشعر الإنسان بأن حياته في مثل هذه الظروف المعقدة لا قيمة لها ولا معنى، مادام لا يهتم أحد بوجوده ولا يجد مكانًا بين الجماعة التي يعيش معها[14]. تقول أغنية للمغني جيمس ارثر هذه الكلمات: "أنت لاشئ حتى يحبك أحدهم... إنها أوقات صعبة حينما لا يرغب فيك أحد" . يصف هنري بولاد مشاعر ذلك الشخص الذي لا يرغب في الحياة: "الإنتحار هو إنعدام وجودي. لا أريد أن أكون موجودّا، لأني اشعر بأن وجودي عبث ولا عنى له إذًا عدم وجودي أفضل"[15]، لهذا يعكس دستوفسكي ضرورة الحب والشركة لأجل الحياة: "بالحب يحيا الإنسان حتى ولو بدون سعادة"

واقع الحياة المؤلم
في كتابه الإدراك المأساوي للحياة كتب ميجيل دي اونامونو Miguel de Unamuno :"وما التاريخ المأساوي للفكر البشري إلا ببساطة تاريخ الصراع بين العقل والحياة- العقل الذي يصر على منطّقَة الحياة وترشيدها وإجبارها على الخضوع المحتوم والموت؛ والحياة التي تصر على ضخ الحيوية في العقل واجباره على ان يعمل على دعم رغباته الحيوية الذاتية"[16] إن حوادث الحياة قد تسبب ضغطًا عصبيًا زائدًا قد يؤدي للكثير من المتاعب، بينما تختلف ردود افعال كل شخص تجاه تلك الحوادث بصور مختلفة.

الإنتحار والمرض النفسي (مصر)
برغم الدوافع النفسية والإجتماعية والروحية الخاصة التي قد تكمن وراء الاقدام على الإنتحار، لكن هناك أيضًا جانب فسيولوجي، فالدوافع النفسية لها مردود فسيولوجي في نهاية الأمر. إن امراض التوتر والقلق والإكتئاب والإنفاعلات الخاطئة تحدث بسبب اختلال في الوظائف في خلايا المخ، وبسبب هذه الاضطراب الكيميائي فإن التوتر والإكتئاب يطغي على الانسان رغمًا عنه.[17]

من الخطورة ومن الظلم أيضًا ان نلقي باللوم على انسان مريض بالقلق بالنفسي ونحكم عليه بأن ما يعانيه هو بسبب حياته الروحية الضعيفة وقلة ايمانه وان ندين مريض اخر يعاني من الإكتئاب لنفس السبب.[18] ان الإكتئاب هو اسوأ ألم غير بدني عرف الإنسان[19].
يقول اوجين اونيل: "لا أحد منا يستطيع ان يمنع ما أحدثته الحياة له. انها تحدث قبل ان نُدركها، وطالما حدثت فإنها تجعلك تفعل اشياء أخرى، حتى في النهاية يصبح كل شئ معلقًا بينك وبين ما تريده ان يحدث، وتضيع منك ذاتك الحقيقية الي الأبد."[20]
بينما تصف سوسن هيل تجربتها مع الإكتئاب: "كان شعوري وكأن نهاية العالم قد جاءت، تذكرت الجلوس والنحيب بلا مساعدة وحيدة في السرير. اشعر اني في اضعف وقت في حياتي غير قادرة ان اواجه اي شئ. لا استطيع ان اتوائم مع موت ابي، شعرت بالفشل وتمنيت الموت."[21] عندما يعجز الانسان عن التعامل مع اكتئابه ويفقد السيطرة على نفسه يلجأ الي الإنتحار.[22]

بحسب دراسة حديثة (2013) وصلت نسبة الإكتئاب في مصر الي 20% من تعداد السكان[23]. وحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية فقد جاءت مصر في المرتبة الـ96 عالميا من حيث معدل حالات الانتحار[24]، كما رصد جهاز التعبئة والإحصاء 18 ألف محاولة انتحار خلال العام 2011، منها ثلاثة آلاف تحت سن الأربعين، وبلغ المعدل السنوي خمس محاولات من أصل ألف.[25]
ويرجع خبراء ارتفاع أعداد المنتحرين في مصر، إلى أزمات نفسية يعاني منها المنتحرون وتتصل بتفاقم الأزمات المعيشية، خاصة الفقر والبطالة.  يؤكد أستاذ علم النفس بجامعة الإسكندرية محمد زويل (في نوفمبر 2014)  أن "قضايا مثل العنف المنزلي والزواج المبكر والبطالة والتربية الخاطئة وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، تسهم في انتشار ظاهرة الانتحار"، مشددا على أن أصحاب محاولات الانتحار "مرضى نفسيون أهملت الأسرة والمجتمع رعايتهم"، ويضيف أن "نسبة الانتحار لدى المصابين بالاكتئاب تبلغ 20% في الوطن العربي، بينما نسبة الانتحار بين المصابين بانفصام عقلي تتراوح بين 10 و15%، أما حالات الإصابة بالاكتئاب بين المنتحرين فتصل إلى نحو 70%".[26]

تكشف الكثير من الدراسات عن اثر التفاعل الاجتماعي وشبكة العلاقات الإجتماعية (الشركة) التي نعيش في ظلها على السعادة،[27]بينما العاطل عن العمل يعاني من خسائر شديدة الوطأة في واحد من اهم جوانب الرضا عن الحياة ألا وهو العلاقات مع الآخرين، فيتضائل حجم الدعم الإجتماعي (الشركة) في الاسرة، وتتعرض العلاقات الاسرية للتصدع، اذ يزيد التوتر في العلاقات الزوجية كما يزيد العنف وحالات الطلاق، وكذلك تزيد المشاكل مع الابناء وتزيد سوء معاملة الاطفال.[28]لهذا تكون المشاكل الاقتصادية والبطالة والخلافات الاسرية شديدة الوطأة على مستوى الصحة النفسية كما يظهر في الاكتئاب والانتحار.[29]

رسالة الكنيسة
رسالة الكنيسة الحقيقية
الكنيسة رسالتها الحقيقة هي إستعلان محبة يسوع وملكوته للبشرية كلها: اي استعلان رسالة يسوع للعالم. بعين النبوة يكشف اشعياء عن إرسالية المسيح لذلك العالم المتألم: " رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3 لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ لأُعْطِيَهُمْ جَمَالاً عِوَضاً عَنِ الرَّمَادِ وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضاً عَنِ النَّوْحِ وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضاً عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ." (اش 1:61-3). في العهد الجديد جاء المسيح بشخصه مقدمًا هذه الرسالة: " كلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ" (يو 11:15)، كانت دعوة الله الدائمة: " تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (مت 28:11)

على الكنيسة إذًا ان تكون أداة شفاء وفرح، إداة إعلان قوة محبة الله ورجاؤه المقدم للبشرية الساقطة. الكنيسة ليست ديانًا، ولا جعلها الله لتكون ديانًا لصالحه.

ان الإنسان في نظر الله اسمى من الناموس نفسه " ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ" (مر 27:2)، فقد قدم ابنه الحبيب لأجل الإنسان. جاء يسوع مناديً باعلان الملكوت " جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ"(مر 14:1-15).

الكنيسة: الجسد الواحد
يخبرنا القديس يوحنا "إن قُلْنَا إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ... فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ" (1يو 6:1-7)، نحن نحتاج الي هذه الشركة لننمو معًا/ فأعضاء الجسد الواحد لا تنمو في انعزال.
يقول القديس قيصروس الذي من آرلز Caesarius of Arles "ان لاشئ يمنعك انت ونحن من ان نكون متحدين دائمًا في المحبة على الرغم من اننا نرى بعضنا فقط في الجسد بين آن وآخر، لأنه في رحلة هذا العالم لا نستطيع ان نكون دائمًا معًا حتى وان كنا في نفس المدينة، لان المدينة التي لا ينفصل فيها المسيحيون عن بعضهم البعض مدينة مختلفة تمامًا"[30]

صورة الكنيسة في العهد الجديد هي صورة الشركة والعطاء المتبادل، كل من لديه يعطي من ليس له، وهو نفس النهج الذي سلكته الكنيسة الأولى. "وحيث اننا نُشكل عقلاً واحدًا وقلبًا واحدًا، فنحن لا نتردد في مشاركة خيراتنا الأرضية بعضنا مع بعض، وكل الاشياء مشتركة بيننا" (ترتليان، الدفاع 32).

يكتب القديس يوحنا ذهبي الفم وكأنه يوجه رسالته لكنائس اليوم: "ليس هناك شئ يجعلنا متمثلين بالمسيح اكثر من الاهتمام بالأقارب أنه حتى ان كنت تصوم او تنام على ارض صلبة، او كنت تتعرض للموت لكنك لا تفكر في قريبك فأنت لم تفعل شيئًا على الرغم من كل ما فعلت وانت لا تزال بعيدًا عن المثال الكامل للمسيحي" (جوهر المسيحية، عظة 25)

بل ان القديس امبروسيوس اسقف ميلان يتحدث عن استخدام الاواني الذهبية المقدسة لأجل الأغراض الخيرية والفقراء (انظر: في واجبات رجال الدين 2. 137)[31]. فما فائدة تلك الأواني المذهبة – حتى وان كانت تستخدم في تقديم الافخارستيا- بين جسد المسيح يئن ويتوجع من الإحتياج!!! اي رسالة تلك يقدمها القديس امبروسيوس لكنائس اليوم!!!.

في رسالته الي كنيسة رومية يشرح بولس الرسول ماهية الكنيسة الحقيقية: " كَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ... اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ. وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْكَرَامَةِ ... مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَاتِ الْقِدِّيسِينَ عَاكِفِينَ عَلَى إِضَافَةِ الْغُرَبَاءِ." (رج رومية 12 كله)؛

وفي رسالته الأولى الي كنيسة كورثنوس يؤكد على أمر بالغ الأهمية، فالكنيسة شغلها الأول هو الاعضاء الضعفاء لا الاقوياء: " الآنَ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنْ جَسَدٌ وَاحِدٌ... لْ بِالأَوْلَى أَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي تَظْهَرُ أَضْعَفَ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ. وَأَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي نَحْسِبُ أَنَّهَا بِلاَ كَرَامَةٍ نُعْطِيهَا كَرَامَةً أَفْضَلَ. وَالأَعْضَاءُ الْقَبِيحَةُ فِينَا لَهَا جَمَالٌ أَفْضَلُ... لِكَيْ لاَ يَكُونَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَسَدِ بَلْ تَهْتَمُّ الأَعْضَاءُ اهْتِمَاماً وَاحِداً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ... نْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ." (رج 1كو 12 كله)
"نَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: أَنْذِرُوا الَّذِينَ بِلاَ تَرْتِيبٍ. شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ، أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى الْجَمِيعِ" (1تس 14:5)

فشل رسالة الكنيسة
فشلت الكنيسة في أماكن كثيرة في تقديم المسيح المُفرح، فشلت في تقديم رسالته الحقيقية، في تقديم السلام الذي يفوق كل عقل (في 7:4)، وفي تقديم الرؤية المسيحية الصحيحة عن الله.
الواقع المصري مؤلم للغاية ويفيض بصراعات وضغوطات رهيبة جدًا خاصة بالنسبة للطبقات الدنيا من المجتمع، في الوقت الذي عجزت فيه كثير من الكنائس في مصر أن تقدم المسيح بصورة صحيحة، بل كثير منها أصبح مثل النوادي الفارهة، وآخر اصبح مقسم إلى طبقات إجتماعية: تلك الثرية القريبة من الرعاة والتي تنظر بشفقة وعطف على تلك الطبقة الفقيرة المسكينة. وبالتالي سقط مفهوم الشركة تمامًا من الكنيسة.

ان اكبر مشكلة تواجه الكثير من الكنائس اليوم هي انها تحولت عن رسالتها الحقيقية، وإستنتسخت رسائل مزيفة اعتقدت انها هي الرسالة الحقيقية، فصارت تلك الكنائس اشبه بال enterprise، فصارت تعمل بالإنتاج الغذائي، والمشروعات والعقارات والمشاريع الهادفة للربح، صارت وكأنها مؤسسات تجارية تهدف للنمو المالي ليس إلا.

ان ما تفعله الكنيسة هو ما سيظن الناس انه هو الله، وبينما يرى الفقراء ان الكنيسة فاحشة الثراء تدفع الملايين على المباني الحجرية والمشروعات والحفلات والمهرجانات والسيارات، وهم لازالوا فقراء يتلقون الكفاف وكأنه تعطف او شفقة، دون ادنى توازن بين ما تصرفه الكنيسة في هذا الاتجاه وما تقدمه للفقراء من دعم مادي وروحي ونفسي، فما سيعتقده هؤلاء ان هذا هو الله، الإله الذي لايهتم، الإله الذي يفضل ان يكون مكان كنيسته مذهب وفاخر وانيق، ولا يفضل ان يتحنن على هؤلاء الفقراء. اي صورة تلك التي سيتعلمونها عن الله؟!!
وحينما تفشل الكنيسة في القيام بدورها في الشفاء الروحي والنفسي لأعضائها وشعبها فهنا تكمن الخطورة الشديدة ان تتحول الي مصدر للإساءة الروحية لما يلجأون اليها طلبًا للمسيح الحي الشافي.[32]

وفي ذلك السياق، يظن الكثير من الرعاة انهم يفعلون ما عليهم، وان العيب هو في الرعية، يبدون في هذا مثل الذي يصطاد بطريقة خاطئة ثم يلوم السمك انه لم يقفز الي الصنارة!!.

تقديم القداسة الزائفة : رجال الله والألم
نحن نسيئ كثيرًا الي رجال الله حينما نقدمهم بشرًا فائقين، فبينما يقدم الكتاب المقدس رجال الله خطاة وساقطين رغم عظمتهم وإيمانهم، نقدمهم نحن كشخصيات اسطورية حالما دخلت الايمان صارت كاملة في كل شئ.
ربما من المفاجئ أن نجد رجال الله العظماء قد يأسوا في بعض لحظات حياتهم من الحياة هم أيضًا:
يقول بولس الرسول عنه نفسه: " مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدّاً فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى يأسنا  مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضاً." (2كو 8:1)
بينما إيليا النبي يصرخ: " حَتَّى أَتَى وَجَلَسَ تَحْتَ رَتَمَةٍ وَطَلَبَ الْمَوْتَ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: [قَدْ كَفَى الآنَ يَا رَبُّ! خُذْ نَفْسِي لأَنِّي لَسْتُ خَيْراً مِنْ آبَائِي!]" (1مل 4:19)

كتب سي اس لويس في رسائلة هذه الكلمات: "كان يمكن لله، لو شاء ذلك، أن يتجسد في انسان ذي اعصاب فولاذية، وان يكون رواقيًا لايسمح ان تفلت اعصابه منه. ولكن بسبب تواضعه العظيم إختار ان يتسجد في صورة انسان ذي احاسيس رقيقة، فبكى على قبر لعازر وكان عرقه يتساقط كقطرات دم في جثيماني"[33] كتب اللاهوتي يورجان مولتمان هذه الكلمات: "الله يبكي معنا، لكي يأتي يوم فيه سنضحك معه".

هذا الواقع الكتابي تكشفه لنا ايضًا حقيقة رسالة الكنيسة الي العالم التي ذكرناها (انظر بالأعلى): الكنيسة هي استعلان لملكوت الله، لم يأت الله ليصنع ملكوته من اناس هم في الأصل ابرار ومقدسين، هو  "لم يأت ليدعوا ابرارًا بل خطاة الي التوبة" (مت 13:9)

الكنيسة والمنتحر
هل تُعاقب الكنيسة الشخص المنتحر؟ على الكنيسة أن تقوم بواجبها إلى النهاية – الحكم النهائي هو في يد الله وحده- واجب الكنيسة أن تقدم التعزيات لأسرة الشخص المنتحر، لا أن تزيد على خطأ المنتحر والألم الذي سببه لكل من يهتم منه وتمنع الرجاء والسلام والتعزية عن هؤلاء.
الكنيسة هدفها هو تقديم المسيح المفرح إلى العالم، لأن أن تقوم بعمل المسيح "الديان" وتحكم على "مصائر الناس".
هناك إتجاهان في أمر الصلاة لأجل الراقدين، الإتجاه القائل أن الصلاة تساعد الراقدين ان يعطيهم الله رحمة ونياح (راحة)، والإتجاه الآخر هو أن الصلاة هي فقط للتعزية. أيًا كان الإتجاه الذي تتبناه في هذا الأمر، فالصلاة واجبة:
-  إن كانت الصلاة لأجل مساعدة الراقدين فيجب أن تصلي الكنيسة لأجل المنتحر مثله مثل اي خاطئ آخر كيما يغفر الله له هذه الخطية ويتحنن إليه ولا ينظر إلى تلك السقطة التي ارتكبها في حماقة،
- ولو كانت الصلاة هي لمجرد التعزية فيجب أن تتخذ الكنيسة من الصلاة فرصة لإعلان الرجاء الحقيقي والتعزية الحقيقية التي في المسيح، فإن كان المنتحر قد ترك زوجة وأطفالاً وأهلاً مكلومين، فإن على الكنيسة أن تكون أول من يبادر ويتقدم للصلاة لتعزية الأسرة، وتُعلن نفسها كيانًا رحيمًا يُقدم المسيح الرحيم وجسدًا يئن ويتوجع لفراق عضو من اعضاءه حتى لو كان هو الذي ازهق روحه.
الموضوع هو عمل رحمة. نحن لا نعلم ماهو الصراع النفسي والروحي الذي دار بين ذلك الإنسان والله، هل قدم توبة في لحظاته الأخيرة؟!! هذا أمر لا يمكن لأحد ان يعرفه، لكن تبقى الإحتمالية قائمة.
"كلنا لا يعرف اللحظات الرهيبة التي تسبق قرار نزع الحياة، كلنا لا يعرف ماذا يحدث ويعتمل في نفس المنتحر، لنترك مصيره بين يدي خالقه ولا نقيم أنفسنا قضاة وجلادين"[34]

يكتب الأب متى المسكين قائلاً:
 "لا أحد هنا يعرف ماذا سيكون نصيب كل واحد بعد الموت. لذلك فلابد أن يُصلَّى على الجميع بعد رقادهم، بدافع الرحمة لهم، تاركين لله وحده أمر الحُكْم عليهم.... فإن كان أحبَّاؤنا الراقدون سيفوزون بملكوت السموات، فسوف يردُّون على صلواتنا بصلواتهم المُستجابة أمام العرش الإلهي من أجلنا. وإن كانت صلوات الكنيسة لن تفيدهم بسبب أنهم أخطأوا خطية للموت، ففي هذه الحالة، نكون نحن قد أوفينا واجب المحبة والرحمة عليهم، وحينئذ تكون لنا الطوبَى من الله حسب القول الإلهي: «طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون» (مت 5:7)، أما الصلوات التي نرفعها أمام الله فستكون لعزائنا وعزاء أحبَّاء وأقارب المنتقل. أما إذا تقسَّت قلوبنا، فرفضنا الصلاة طلباً للرحمة من أجل الراقدين، فسيجوز فينا قول يعقوب الرسول: «لأن الحُكْم هو بلا رحمة لمَن لم يعمل رحمةً، والرحمة تفتخر على الحُكْم» (يع 2: 13)."[35]
تقوم الحجج الواهية التي يطرحها الذين يرفضون الصلاة على المنتحر أنه يأس من رحمة الله وفقد الرجاء، وبالتالي فهو سيذهب إلى الجحيم ولا يمكن للكنيسة أن تصلي لأجله. هذه الحجة تبرز قصور شديد في فهم نفسية المنتحر (كما ذكرنا بالأعلى)، فالأمر ليس بهذه  البساطة. يُضاف الي ذلك أن هذه الحجة تطرح إفتراضًا وهو أن كل من يموت وتصلي لأجله الكنيسة يكون قد مات وهو تائب عن خطاياه وهو أمر بالتأكيد عبثي، الإنسان يموت فجأة دون مقدمات أو مؤشرات في أغلب الأحيان قد يكون تائبًا عن معظم خطاياه لكن بالتأكيد ليس عن كل خطاياه. إن الله له تعاملاته الخاصة وفائقة الإدراك مع الإنسان، هو ينظر لأمور لا ننظر لها نحن في قلب الإنسان، إن افتراض ان الله سيُدخل إنسانًا ما إلى الجحيم لمجرد خطية واحدة هو إفتراض يهين الله بحق.

هناك ضغوطات مؤلمة جدًا تؤدي بالمرء أن يجنح عن صوابه ولو للحظات، فالإنسان كائن متفاعل مع كل ماهو حوله. إن الشخص الذي يقوم بقتل نفسه يكون كل تركيزه منصب كليًا على نقطة الصراع التي أدت به إلى هذا الموقف، لايمكنه في تلك اللحظة ان يفكر في اي شئ آخر. الأمر ليس بتلك السذاجة: أنه يقصد أن ينكر إيمانه وأنه يأس من رحمة الله. إن الإنسان الذي لم يتعلم منذ الصغر صورة المسيح الحقيقية، والذي لم يعرفه أحد كيف يواجه مشاكله بشكل واع وعينين مثبتتين على المسيح، من الطبيعي ان نتوقع منه ان يقوم بفعل مثل هذا عند نقطة انهيار في صراع نفسي رهيب. هناك فرق كبير بين يأس إنسان من غفران الله، وبين يأس إنسان الناجم عن ضغوطات الحياة (رج رجال الله والألم بالأعلى حيث يأس كل من بولس وإيليا من الحياة).

أمر واحد فقط هو الذي يدفعنا أن نحكم على الآخرين نجزم أن مصيرهم هو بالتأكيد الجحيم فهم قد يأسوا من رحمة الله وليسوا مثلنا نحن الذين نثق في رحمته الواسعة: " مَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هَذَا الْعَشَّارِ. 12 أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ" (لو 11:18-12)، لقد أدان يسوع الفريسيين بسبب هذه الأفعال، لكننا لازلنا نكررها!!!
تقولي ليني باين في كتابها عن أعمال سي. اس. لويس "إن رجاءنا لايمكن في المطالبة ان تكون أنظمتنا مسيحية، بل أن نصبح نحن أنفسنا مسيحيين حقًا"[36]
ان الواجب الأسمي على الكنيسة ان تصلى ان يكون ذلك الشخص المنتحر في لحظاته الأخيرة قد تلاقى وتلامس مع الله.

الصلاة لأجل الجميع
الكنيسة هي  عائلة يسوع، هي "مشفى للخاطئين، و ليست متحفًا للقديسين."[37]  في الإفخارستيا نُقر أننا خطاة و مرضى و نحتاج لترياق الخلود بحسب تعبير إغناطيوس الأنطاكي. تعلمنا الروحانية الشرقية الارثوذكسية أننا متحدين في جسدٍ واحدٍ، و أننا نرفع الصلاة بعضنا لبعض، فلا يوجد فرق بين حي و راقدٍ، لأن إلهنا هو إله أحياء، فالموت يفرق بين عالمنا الزمني-المكاني لكنه لا يستطيع أن يكسر الرباط العضوي بيننا في المسيح يسوع. و من هذا المنطلق فالصلاة لأجل الموتى نابعة من إيمان "إكليسيولوجي"[38] ، يقول الكاتب الأرثوذكسي كوستى بندلي "إننا نصلي من أجل جميع الراقدين دون إستثناء. لا بل لدينا رجاء عبرَّ عنه آباء قديسون كبار كغريغوريوس النيصي و اسحق السرياني الذي لم يكن يحتمل فكرة أن يبقى أحد إلى الأبد في الجحيم"[39] ، و يضيف قائلاً "و تجلى في عصرنا عند الراهب سلوان الذي كان يسكب دم قلبه في صلاة لا تنقطع و رجاء لا يكل من أجل خلاص الجميع." [40]  

دور جماعة الكنيسة أن تفترض "البراءة" في المنتحر، و تضع رجاءها في خلاصه في يد الله، و الله هو من سيدين بعدل. في الليتورجيا المقدسة تقول جماعة الكنيسة بملئ الفم "كرحمتك يا رب و ليس كخطايانا"، فنحن نقر أننا خطاه و نحتاج لرحمة الله أي يسوع المسيح (كرسي الرحمة).
الرؤية المسيحية ترى جماعة الكنيسة متحدة في رأس واحد هو يسوع المسيح الرب القائم من الموت، فلا يوجد أي حاجز يفصل الانسان عن الله أياً كان هذا الحاجز، فالله هو  "إله ابراهيم و إله اسحق و إله يعقوب" هو ليس "إله أموات، بل إله احياء، لأن الجميع يحيون له" (لوقا 38:20).

 تلخيص و استنتاج
1. الانتحار خطية: "الانتحار الواعي" خطية، و الكنيسة دورها أن تُعلن رسالة الانجيل و ألا تتهاون فيها.
2. إعادة نظر: الانتحار موضوع في غاية الصعوبة فيجب علينا إعادة النظر في المعايير التي نستند إليها عندما نحكم على حالات الانتحار، ونأخذ بعين الاعتبار الأمور التي نستند إليها عندما نحكم على حالات الانتحار  خاصة العوامل النفسية و العصبية-الكيمائية التي قد تكون هي السبب في لجوء الانسان إلى الانتحار.[41]  يشير جون بريك أننا يجب أن نُعيد النظر في قانون البابا تيموثاوس حيث أن "معظم حالات الانتحار تكون نتيجه عوامل لا طاقة للإنسان عل التحكم بها، كالكآبه المتواصلة و الاحباط الناتج عن صدمة معينة   Recurrent Major Depression MDR & Post Traumatic Stress disorder PTSD   أكثر مما تنتج عن حالات الخطيئة أو الضعف العقلي،[42]  وهي الأمور التي لم تكن متاحة أو معروفة في القرن الرابع في زمن البابا تيموثاوس. و يضيف "وفق بعض اللاحصائيات بينت الدراسات الحديثة أن ثمة علاقة بين الانتحار و اعتلال النواقل العصبية فمن المثبت علمياً أن بعض الأمراض كمرض باركنسون و غيره من الاضطرابات العصبية المماثلة التي تؤثر في العقد القاعدية، تؤدي إلى هبوط معدل الدوبامين و بالتالي إلى كآبه تتميز في أغلب الأحيان بانقلاب سئ و حاد للمزاج إلى درجة تجعل المريض يستسلم إلى ما يُعرف بالميل أو الدافع إلى الانتحار." [43] (رج جزء الإنتحار والمرض النفسي بالأعلى)
3. الدينونة لله:  من العجرفة أن يقف انساناً و يقول أن فلاناً سوف يذهب للجحيم أو لا بسبب قيامه بالانتحار (رج الفريسي والعشار)، فلا يجب أن نقجم بالإجابات المُعلبة لمثل هذه الإشكالية، فكما يقول المطران جورج خضر "يقضي تواضع المعرفة إلاَّ يُنصِّب أحدٌ نفسه ديانًا، فالله وحده يدين القلوب"[44] ، فيجب علينا أن "نودع الضحية في عناية الله الرحيمة و نشهد على أن محبة يسوع المسيح الخلاصية أقوى من الموت الذي يجلبه الإنسان إلى نفسه." [45]
4. الانتحار دينونة لنا كجماعة الكنيسة: إن الانتحار هو دينونة لنا، فالكنيسة في المفهوم الارثوذكسي هي جسد واحد رأسه واحد هو المسيح، و كما يقول الأب جون بريك "ليس الانتحار حكماً على الذي اقترفه بل تذكير لنا بأننا فشلنا كجماعة في تطبيقة التزامنا بألا يتخلى أحدنا عن الآخر[46]" : أي فشلنا ككنيسة وكمجتمع مدني أيضًا.
5. الصلاة للمنتقل: نؤمن أن الكنيسة (المكونة من الأحياء و الأموات) هي جسد واحد في رأس واحد وهو المسيح، فعندما نصلي في صلاة الجناز نحن نصلي لعضو من أعضاء الكنيسة، فالصلاة حسب المفهوم الإرثوذكسي هدفها التوسل من الله أن يريح النفس المنتقلة و أن يذكرها معه في الملكوت و نطلب العزاء للعائله و نطلب غفران الخطايا لنا و نعلن الانجيل، وأيضًا بحسب الكنائس الأخرى هي للتعزية وإعلان رجاء المسيح وقيامة الأموات.

طرح
كمحاولة منا نرجو من كنيستنا أن تكون رائدة كما كانت كنيسة الاسكندرية دائماً، نقترح أن تقوم بعمل طقس صلاة معين للشخص المنتحر، يتميز بالعناصر التالية:
1. إعلان الكنيسة أن يسوع المسيح هو الرجاء و المخلص و الفادي الوحيد الذي بموته و قيامته وطأ الموت و ذبحه (كتعبير ميليتيوس أسقف ساردس في رسالته في الفصح، فقرة 102) و أن بعمله الخلاصي تُغفر كل الخطايا أياً كانت، و أنه وحده يغفر الخطايا الخفية و الظاهرة، التي فعلناها بمعرفة و بدون معرفة.
2. إعلان الكنيسة أنها ترفض الانتحار لأنه خطية، و أن حياة الانسان هي هبة من الله، و أن الله هو خالق الانسان عل صورته و يدعوه كل يوم و كل لحظة أن يسلك كمثاله (نجد التفرقة عند آباء الكنيسة بين الصورة و المثل).
3. إعلان أن الكنيسة كلها (سواء الراقدين أو الأحياء) هي كنيسة واحدة و جسد واحد ملتحم  و أنها متألمة للشخص المنتحر و لعائلته وأصدقائه.
4. تطلب الكنيسة من الله أن يغفر للمنتحر و تطلب منه أيضاً أن يُعزي أفراد اسرته.
5. تطلب الكنيسة من الله أن يغفر لها إذا كان هذا الانتحار ناتج عن تقصير منها تجاه المنتحر، وتقصير منها في تقديم بشارة المسيح المفرح.
6. إعلان أن الله فاحص القلوب و الكلى و أن الدينونة هي ليسوع المسيح فقط، وهو الذي سيدين المسكونة بالعدل.



[1] http://goo.gl/xY7rII
[2] Testamentum Empirium, Vol. 3, 2011, p .5 http://www.preciousheart.net/ti/2011/002_Demy_Grace_and_Suicide.pdf
[3]  Testamentum Empirium, Vol. 3, 2011, p. 6
[4] William E. Phipps, Christian Perspectives on Suicide (The Christian Century, October 30, 1985): 970-972
[5]  Book I, Sections 18-26
[6] Michael Cholbi in Stanford Encyclopedia of Philosophy article on Suicide, section 2.2 The Christian Prohibition ; in http://plato.stanford.edu/entries/suicide/#ChrPro
[7] " (متى 31:12-32): حسب تفسير معيار الارثوذكسية القديس أثناسيوس الرسولي لهذه الآية، فهي تعني أن اليهود نسبوا أعمال الله للشيطان (انظر اثناسيوس الرسولي، الروح القدس، مركز الدراسات الابائية، ص137-142)، و من تفسيره نستطيع أن نقول أن من تكون معاييره خاطئة و يصير الخير شراً و الشر خيرًا و يستمر في هذا الجحود و لا يحاول أن يتوب، هذا هو من لم تُغفر له خطاياه، لأنه استمر في جحوده إلى المنتهى.
[8] جون بريك، الحياة هبة مقدسة: الأرثوذكسية و أخلاقيات علم الحياة، تعاونية النور الإرثوذكسية، لبنان، ص397
[9] جون بريك، الحياة هبة مقدسة، ص397
[10] جون بريك، الحياة هبة مقدسة، ص398
[11] http://www.vatican.va/archive/ccc_css/archive/catechism/p3s2c2a5.htm
[12]  جان باول اليسوعي، كمال الإنسان في ملء الحياة، دار المشرق، بيروت 2005، ص11
[13] جان باول، كمال الإنسان، ص13
[14]  هنري بولاد اليسوعي، الإنسان وسر الوجود، دار المشرق، بيروت 2004، ص41
[15]  هنري بولاد، الإنسان وسر الوجود، ص50
[16]  Del sentimiento trágico de la vida  في: رولو ماي، إشكالية الإنسان وعلم النفس، مكتبة دار الكلمة، القاهرة 2006، ص185
[17]  عادل زكي، نفوس متألمة... من يحتضنها، القاهرة 2003، ص19
[18]  عادل زكي، نفوس متألمة، ص19
[19]  سو اتكنسون، التسلق خارج اسوار الاكتئاب، دار الثقافة، القاهرة 2005، ص29
[20]  سو اتكنسون، التسلق خارج اسوار الاكتئاب، دار الثقافة، القاهرة 2005، ص21
[21]  سو اتكنسون، التسلق خارج اسوار الاكتئاب، دار الثقافة، القاهرة 2005، ص72
[22]  سو اتكنسون، التسلق خارج اسوار الاكتئاب، دار الثقافة، القاهرة 2005، ص160
[23] http://goo.gl/XfmaIH
[24] http://www.who.int/mental_health/prevention/suicide/suicideprevent/en/
[25] http://goo.gl/54GWHs
[26]  http://goo.gl/ya8dgM
[27]  مايكل ارجايل، سيكولوجية السعادة، عالم المعرفة 175، الكويت 1993، ص27
[28]  مايكل ارجايل، سيكولوجية السعادة، ص85-86
[29]  حول سيكولوجية المنتحر، والأبعاد النفسية والطبية للإنتحار يمكن الرجوع لهذه القائمة القصيرة من المراجع من ضمن مئات العناويين والدراسات المتخصصة والطبية:
Thomas Joiner, Why People Die by Suicide (Cambridge: Harvard University Press 2005); Ron Solomon, Psychological Disorders: Suicide (NY: Infobase Publishing 2007); Donna Holland Barnes, The Truth About Suicide (NY: DWJ Books 2010); John Henden, Preventing Suicide: The Solution Focused Approach (NY: John Wiley & Sons Ltd 2008); James N. Parker & Philip M. Parker, Suicide: A Medical Dictionary, Bibliography, and Annotated Research Guide to Internet References (CA: ICON Health Publications 2003); Glen Evans & Norman L. Farberow, The Encyclopedia of Suicide (NY: Facts on Files 2003); Kay Redfield Jamison, Night Falls Fast: Understanding Suicide (NY: Alfred A. Knope 1999); Depression Et Suicide: Aspects Medicaux, Psychologiques, Et Socio-Culturels (Compets rendus de la XIe reunion de l’association international pour la prevention du suicide) Paris, Juillet 5-8 1981 (Paris: Pergamon Press 1983); J. Maxwell Atkinson, Discovering Suicide: Studies in the Social Organization of Sudden Death (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press 1978); Gavin J. Fairbairn, Contemplating Suicide: The Language and Ethics of Self Harm (NY: Routledge 2005); Butch Losey, Bullying, Suicide, and Homicide: Understanding, Assessing, and Preventing Threats to Self and Others for Victims of Bullying (NY: Routledge 2011); Alan L. Berman, David A. Jobes and Morton M. Silverman, Adolescent Suicide: Assessment and Intervention (Washington:  American Psychological Association 2006); Alan Carr, Depression and Attempted Suicide in Adolescence (MA: Blackwell Publishing: 2002); D. R. Jatave, A Philosophy of Suicide (India: ABD Publishers 2010)
[30]  (486- 542م)؛ توماس مالتون، الأباء والكنيسة، دار الثقافة، القاهرة 1998؛ CCL. 104. 617
[31] http://www.ccel.org/ccel/schaff/npnf210.iv.i.iii.html
[32]  أوسم وصفي، الروحانية والتعافي، كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية 2005، ص48-49
[33] C. S. Lewis, Letters of Lewis (NY: Harcourt, Brace & World 1966): 210
[34]  جرجس كامل يوسف في تعليقه على http://goo.gl/kBDTxV
[35]  متى المسكين، الصلوات الطقسية للحياة اليومية للمؤمن المسيحي: 1- الصلاة من أجل الراقدين، في
http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/sm020906.htm
[36]  ليني باين، الحضور الحقيقي، دار الكلمة لوجوس، القاهرة 2011، ص62
[37]  تيموثي كلر، الإيمان في عصر التشكيك، اوفير، الاردن 2010، ص 94
[38]  أي متعلق بالعقيدة حول ما هية الكنيسة
[39]  كوستى بندلي، الله و الشر و المصير، منشورات النور 1993،  ص275
[40]  كوستى بندلي، الله و الشر و المصير، ص 275
[41] جون بريك، الحياة هبة مقدسة، ص 404
[42] جون بريك، الحياة هبة مقدسة، ص 402
[43] جون بريك، الحياة هبة مقدسة، ص 402-403
[44] مقالة بعنوان "هل يخلص غير المسيحي" على الرابط http://www.coptology.com/blog/?p=49
[45] جون بريك، الحياة هبة مقدسة،  ص 402-403
[46] جون بريك، الحياة هبة مقدسة، ص 412

تعليقات

  1. لا تقتل (خر 20 : 13)
    ؟؟ منطقيًا الانتحار خطية قتل للنفس فهل هذا مجرد عمل رديء

    ردحذف
  2. الكنيسة لا تصلي على المنتحر العاقل إلا إذا كانت هناك فترة زمنية ما بين محاولته الانتحار ووفاته ربما قدم توبة عن هذه الخطية.
    أما إذا مات مباشرة في محاولة الانتحار فهو بذلك يكون قد مات في خطية للموت والكنيسة لا تملك أن تطلب المغفرة من أجله لأن هذا ضد تعليم الكتاب المقدس "توجد خطية للموت، ليس لأجل هذه أقول أن يُطلَب" (رسالة يوحنا الأولى 16:5).

    ردحذف
  3. This is one of the most beautiful essays I have read. God bless you

    ردحذف
  4. مقال أكثر من رائع! لقد عزى قلبي بمحبة الله المتدفقة منه.
    الله يبارك قلبكم😘

    ردحذف
  5. !Thank you for this very insightful article

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.