التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تدوينة لا تستحق الكتابة

هذه تدوينة لا تستحق الكتابة.
ليس لانها تناقش موضوعات ما ليست ذات أهمية، بل لانها تناقش ما يفترض اننا قد تجاوزناه منذ عقود مضت.

1)العقل في ازمة
منذ ما يقارب الالفي عام -تخيل معي "الفي عام"- كتب كل من يوستينوس وكليمنضس السكندري وأثيناغوراس (وغيرهم) عن الحق الذي نجده في كتابات الفلاسفة والشعراء اليونانيين (لاحظ اليونانيين اي الوثنيين). 

إنفرد يوستينوس (100-165م) بتعبير اللوجوس البذار  λογος σπερματικος ، وفي رأيه ان اللوجوس موجود في العالم على شكل "ذار (بذور)" صغيرة متناثرة في كل البشر لذا فالمسيح لأنه الحق (واللوجوس الكامل) كان يعمل بكونه هو الكلمة حتى قبل تجسده. يكتب يوستينوس –بكل جراءة- واصفًااليونانيين الذين عاشوا بالحكمة هم مسيحيون: "لقد تعلمنا أن المسيح هو بكر الله وشرحنا قبلاً انه هو الحكمة (لوغوس) الذي فيه يشترك كل البشر. والذين عاشوا بالحكمة هم مسيحيون حتى ولو اعتبروا من الملحدين مثل سقراط وهيراقليتس من اليونانيين وغيرهم...." (يوستينوس الدفاع الاول 46)


ويكتب في موضع آخر: "والرواقيون مع انهم كانوا يستحقون المديح، على الاقل فيما يتعلق بالاخلاق، كما كان الشعراء ايضًا في بعض الاوجه، لأن بذور اللوغوس مزروعة في كل البشر" (يوستينوس الدفاع الثاني 18). كان الحق والحسن الذي في كتابات هؤلاء الفلاسفة اليونايين –بالنسبة ليوستينوس- هو جزء ولو ضئيل من الحق الالهي: "كذلك بالنسبة لتعاليم الاخرين والشعراء والمؤرخين، فكل واحد من هؤلاء من خلال اشتراكه في بذرةة اللوغوس الالهي وما يتعلق به تكلم حسنًا جدًا... حقًا كان لهم قبس من الحقيقة بواسطة بذرة الكلمة المغروسة فيهم" (يوستينوس الدفاع الثاني 13)

كليمنضس السكندري، رأى ان الفلسفة اليونانية مثلها مثل الفلسفة المسيحية من اعمال العناية الالهية، وكلاهما مصدرهما صالح هو الله نفسه، يقول: "إن الفلسفة قد أُعطيت كمنحة إلهية لليونانيين وهي لا تأخذنا بعيدًا عن الايمان، بل تثمر تدريبًا شاملاً ودالاً على الايمان" (ستروماتا 8)؛ ويضيف تلك الكلمات القوية "إن افلاطون ماهو الا موسى النبي لكن في قالب يوناني" (ستروماتا 8. 150)

باسيليوس الكبير كتب مقالة يتحدث فيها الي الشباب المسيحي عن اهمية وفائدة قراءة الادب اليوناني، الشباب الذي كان قد اوشك على الانضمام الي المدارس الفسلفية حيث كانت قراءة نصوص الادب الوثني والتعليق عليها شيئًا اجباريًا.[1] وفي هذه الرسالة ينصح كل مسيحي ان يقرأ كتب غير المسيحيين وان يتمثل بالخير ويتجنب الشر الذي فيها، وان يبتعد عن وصف هؤلاء الكُتاب لمشاهد غراميات الآلهة. 
[2]
لاحظ ان باسيليوس لا يطلب ان تتجنب هذه الكتابات لآن فيها ماهو شر، بل يطلب ان تتمثل بالخير وتتجنب الشر الذي فيها.
ليس هذا فقط، بل اننا نجد كما هائلا من الاقتباسات من الكتابات المنحولة اليهودية (رؤى اخنوخ على سبيل المثال)، الكتابات الابوكريفية المسيحية, الكتابات اليونانية... إلخ (وهي التي نراها ايضًا في كتابات العهد الجديد، راجع اقتباسات بولس الرسول الرواقية على سبيل المثال)

هلخص الجزء الاول ببساطة: الاباء قالوا ان كل حاجة كويسة وحق حتى في كتابات الوثنيين مصدرها الله. مش بس كده دول اقتبسوا من كل انواع الكتابات حتى المنحولة والابوكريفية، وشجعوا كمان على قراءة الادب اليوناني.

هذا يعني اننا تجاوزنا هذه القضية منذ زمن. لكن ومع الاسف دائما يقفز من قلب "اللاحضارة" -وبالمصطلح الجديد وتوازيًا- هم داعشيون: "افعل هذا... لا تفعل ذاك... والا", هذا مهرطق (كافر), هذا غربي (خارج الامة), هذا خلقيدوني (ربما تماثل شيعي)... الخ

الوصاية على العقل انتهت منذ عقود مضت. اقول لك اقرأ لمن تريد: غربي، شرقي، بروتستانتي، تقليدي، قبطي، ملحد، مسلم...الخ. لا تلتفت لمثل هؤلاء الذين يظنون انفسهم مُلاك الحقيقة المطلقة. (ارشح لك كتاب مراد وهبة "مُلاك الحقيقة المطلقة" ستكتشف الكثير عن مرض هؤلاء)

2) الخلقيدوني... والغربي... والتنظير اللاهوتي

الماضي مدرسة لا تتوقف عن تعليمنا.

منذ ما يقارب أيضًا الالفي عام كتب ايرينيوس- وهو الملقب بابو التقليد الكنسي وواحد من اكبر المدافعين- شارحًا الفرق بين الهرطقة والاختلاف في الرأي. بالنسبة لايرينيوس اي فكر يخرج عن إطار "إقرار الإيمان" (الذي كان قانون إيمان نيقية هو صيغته النهائية) هو هرطقة: يقول ايرينيوس عن هذا الإقرار (140-202م):
"الكنيسة رغم إنتشارها في العالم كله حتى الي اقاصي الارض، قد استلمت من الرسل وتلاميذهم هذا الايمان: (فهي تؤمن) بإله واحد، الآب ضابط الكل، خالق السماء والارض والبحر، وكل ما فيها من كائنات، وبرب واحد المسيح يسوع ابن الله الذي تجسد لأجل خلاصنا، وبالروح القدس، الذي كرز بواسطة الانبياء، عن تدبيرات الله، وعن مجئ (الابن) وميلاده من عذراء، وعن الالام، والقيامة من الاموات، وعن الصعود الي السماء بجسد المحبوب المسيح يسوع، ربنا وظهوره (الاتي) من السموات في مجد الاب...... «(ضد الهرطقات 1. 10. 1). وهذا هو التقليد المسلم بالنسبة لايرينيوس "إقرار الايمان."

أي إختلاف في الرأي في إطار الإيمان المحدد في هذا القانون الإيماني هو إختلاف في الرأي والتفسير.

الاباء أنفسهم اختلفوا فيما بينهم، ولم يُهرطق بعضهم البعض. بل كانت الهرطقة مثلما علم ايرينيوس هي الخروج عن اقرار الايمان لذا كان اريوس, نسطوريوس,اوطيخا وغيرهم هراطقة. على سبيل المثال تعتبر رسالة برنابا ايام الخلق هي ايام غير حرفية (رسالة برنابا 15)، بينما لكتانتيوس يعتبر ان الايام هي ايام حرفية: "... في البدء خلق الله النور، وقسمه بنفس المقياس الذي هو اثني عشر ساعة للنهار ومثلها لليل" (لكتانتيوس في خلق العالم)، وهو نفس المبدأ الذي تنباه اغسطينوس.
أمور أخرى كثيرة على هذا النسق: إختلاف في الرأي والتفسير.

( نقطة عابرة او ذكرها دون تفاصيل لم يُحرم اوريجينوس او ذهبي الفم لاسباب لاهوتية بل تم حرمهم نتيجة خلافات شخصية (راجع يوسابيوس على سبيل المثال في قضية اوريجينوس) )

لكن ما الذي فعله الاباء في شروحاتهم اللاهوتية.! قاموا بصك وصياغة مصطلحات وتعبيرات لاهوتية جديدة تتناسب مع سياق وثقافة العصر، مصطلحي الجوهر ουσία، والإقنوم  υπόστασίς كان يستخدمان بالتبادل حتى عام 329م في اللاهوت المسيحي ثم جرى الفصل بينهما على يد اثناسيوس.

ايرينيوس، اوريجينيس، اثناسيوس، وكيرلس صكوا وطوروا مصطلحات وتعبيرات لاهوتية جديدة.

بل ان بعض الاباء استخدموا مصطلحات صكها هراطقة لشرح الايمان. على سبيل المثال المصطلح الأشهر في الكريستولوجيا المسيحية، والذي استخدم في نيقية وبعد ذلك من قبل اثناسيوس "هومواوسيوس"؛ هو مصطلح غنوسي (راجع اقتباسات ابيفانيوس Epiph. Haer. 33.7.8[3] و ايرينيوس ضد الهرطقات 1. 5. 1) ثم سابيلي (من سابيليوس) في الاساس.

الخلاصة

احنا امتداد لتراثنا الابائي لكن احنا مش أسرى التراث ده. التراث تطور على مدى عصر الاباء كله والمصطلحات اللاهوتية اطورت مع تغير السياق والعصر، والاباء هما اللي طوروها بنفسهم بما يتناسب مع عصورهم المختلفة. واحنا في عصر مختلف وسياق مختلف جدًا جدًا لا بيتكلم يوناني ولا لاتيني ولا بيتعاطى الفلسفة في الشارع. 

احنا بنتعلم من الاباء ازاي هما طوروا وصكوا وشرحوا الايمان وبنعمل زيهم بما يتناسب مع عصرناوسياقنا. ايوه بنحاول نكتشف طرق جديدة لشرح اللاهوت والايمان (شوف مثلا الفرق بين المدخل الكبادوكي لشرح الثالوث والمدخل السكندري ومدخل اغسطينوس).
طور ونظر بما يتناسب مع سياقك وثقافتك وعصرك، متوقفش واتعلم من الاباء المنهجية والطريقة. اختلف واغلط، وصلح نفسك .لكن متخافش.



[1] سامح فاروق حنين, الكنيسة وثقافة العصر من خلال “رسالة الي الشباب في كيفية الاستفادة من الثقافة اليونانية” للقديس باسيليوس الكبير (القاهرة: باناريون, 2015), 30.
[2] Ibid., 36.
[3] G. L Prestige, God in Patristic Thought (London: SPCK, 1985), 197.

تعليقات

  1. يسعدنا انضمامكم الي
    جامعة المنيا:
    تسعي الجامعة إلي توفير مقومات التطوير المستمر لمواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة ، وتجويد الأداء الجامعي ، وتعمل الجامعة علي تحقيق رسالتها من خلال
    إعداد الكوادر الفنية المتخصصة في مختلف المجالات التي تقابل احتياجات المجتمع وتتطلبها مجالات التنمية الشاملة وتوفير المؤهلين في التخصصات المستحدثة التي يتطلبها سوق العمل إجراء البحوث والدراسات العلمية والتطبيقية التي ترتبط بمشكلات المجتمع وبرامج التنميـة
    التأكيد علي القيم الإنسانية النبيلة وتعميق قيمة الولاء الوطني والمحافظة علي المبادئ الأصيلة للمجتمع
    دعما لروابط الثقافية والعلميةبين الجامعة والمؤسسات العلمية والجامعات العربية والعالميةوتوثيقها
    التطوير المستمر للبرامج الدراسية وبرامج الدراسات العليا لمواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي
    تقديم الخبرات الاستشاراية للهيئات والمؤسسات الانتاجية من أجل خدمة المجتمع وتنمية البيئة

    جامعة المنيا
    Minia University
    Université de Minia
    Universidad de Minia

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.