التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الذهاب الي الاستشهاد وإنتقام الله: ما الذي يجب ان نفعله اليوم؟!

الأحداث
في كل مرة بيحصل تفجير أو اضطهاد ضد المسيحيين، بتكرر مجموعة من النبرات الخاصة بالاستشهاد وان الله هو الذي سينتقم. زي مثلا "نبدأ نعد اربعين يوم وهنشوف ربنا هيعمل" أو "15مليون قبطي مستعدين للاستشهاد هذا الأسبوع ولن يمسكوا سيفا أو حتي يعترضوا ...فإنهم من يوم معموديتهم يشتهون هذا النصيب الصالح و يتمنونه من كل قلبهم... عقبالنا كلنا".
بيتحول لاهوتنا من لاهوت حياة الي لاهوت موت.

الحياة والموت
المؤمنون المسيحيون الحقيقيون مدعوون للحياة وليس للموت. أتى الرب يسوع الي العالم كي يكون للمؤمنين به حياة (يو١٠: ١٠؛ ٢٠: ٣١). طلب منا يسوع أن نكون نوراً للعالم وملحاً للأرض (مت٥: ١٣-١٤)، عن طريق المثال والصورة المرئية التي يجب ان نكونها وسط العالم. يوصي بولس الرسول تلميذه تيموثاوس أن يكون قدوةً للمؤمنين بكلامه وتصرفاته ومحبته (١تي٤: ١٢).  فالقدوة يستمدها الناس من الحياة وليس من الموت!
الكنيسة الأولى – والتي عانت مرار الاضطهاد بشتى انواعه - لم تكن تسعى للموت أو تُشجع عليه أبداً كما هو شائع الآن بل على النقيض تماماً، فالتلاميذ والرسل أقاموا مناحة عظيمة بعد  استشهاد إسطفانوس (أع٨: ٢)، وصارت صلاة من الكنيسة بلجاجة إلى الله من أجل حفظ حياة بطرس من الموت (أع١٢: ٥)، بل ان التلاميذ في دمشق قاموا بتهريب بولس الرسول ليلاً إلى أورشليم خوفاً منهم على حياته (أع٩: ٢٥).
لم يكن ذلك تمسكًا بروعة الحياة أو لرغبة شخصية أو طموح ما معين. لكنه لإيمان هؤلاء الشديد أن حياتهم  هي عطية من الله، و فرصة لتوصيل رسالة الإنجيل لأكبر عدد ممكن من الناس، من اجل تمجيد الله في كل ما يفعلون.
حتى في الفترة التي تلت عصر الرسل، نجد رسالة استشهاد بوليكاربوس تُعلن ان الكنيسة ترفض الذين يتقدمون طواعية للإستشهاد، نجد اوريجانوس واثناسيوس وغيرهم يهربون من الاستشهاد؛ بل نجد الرهبان والنُساك يقيمون الحصون حول اديرتهم حماية لهم من غزوا البربر!!
ثقافة الاستشهاد
نتيجة الإيمان بالرب يسوع القائم من بين الأموات كرب ومُخلِّص، عانى المؤمنون الأوائل من الإضطهادات في كل الأماكن التي كانوا يقطنون فيها فيها في القرون الأولى للمسيحية. كانت هذه الإضطهادات تشتمل المضايقات في الحياة اليومية من ظلم وسلب وضرب وسجن وتعذيب بدني، وذلك بغرض دفع هؤلاء المسيحيين كيما يتراجعوا عن قرار تبعية المسيح. التالي كان القتل والتمثيل بالأجساد وتمزيقها والقاءها للوحوش إعتقاداً منهم أن المسيحيين يُشكلون خطراً على الامبراطورية. أمام كل هذه الإضطهادات التي واجهها المؤمنين لا نقرأ نصاً كتابياً واحداً يشجع المؤمنين على السعي وراء الإضطهادات، أو نجد أي رسول أو تلميذ يطلب من تلاميذه ان يذهبوا للموت بإرادتهم إطلاقاً. وإنما التشجيع كله كان مُنصباً على التمسك بالرب يسوع وقت الضيق والألم، حتى يكون الإيمان بالرب هو الدافع الوحيد لاحتمال الإضطهادات.
فلم نرى مثلاً تلميذاً سعيداً بقتل اخوته المؤمنين، أو أن الكنيسة هنأت أعضائها بمقتل يعقوب، أو أنها أقامت احتفالاً باستشهاد إسطفانوس، أو أن رسولاً كتب لشعب كنيسته عقب استشهاد شخص منهم "عقبالكم"! بل على النقيض تماماً، فعلى الرغم من إيمان الكنيسة الأولى بالرب وتمسكها به، إلا أن هذا لم يمنعها من الانزعاج والحزن وقت الألم والضيقات؛ فالمؤمنون بالرب هم بشراً أولاً وأخيراً، يحزنون ويخافون وينزعجون من المصائب.: ألم يبكي يسوع على قبر لعازر؟!!. ولكن الإيمان بالرب المنتصر هو الذي قواهم واعطاهم احتمالاً وتماسكاً وسط المشقات، لا جعلهم أشخاصاً متبلدين المشاعر وغير مكترثين بما يحدث لهم أو لغيرهم من إضطهاد!
فلماذا إذاً يُساء فهم بعض النصوص الكتابية ويتم تفسيرها على أنها دعوة للذهاب للموت والاستشهاد بكامل الرغبة والإرادة؟؟
هل الكتاب المقدس يحتوي على نصوص تُشجع المؤمنين على الاستشهاد؟؟
قبل الإجابة على هذا السؤال أودّ في البداية أن أُشير إلى مشكلة في غاية الأهمية: تعودنا كمسيحيين على قراءة أغلب نصوص الكتاب المقدس بطريقة خاطئة، وذلك أدى بالتالي إلى فهمها وتطبيقها بطرق خاطئة في حياتنا العملية؛ ويأتي ذلك بسبب عدم احترامنا لأبسط قواعد علم التفسير الكتابي، وهو مراعاة القرينة الأدبية والقرينة التاريخية للنص الكتابي، أي قراءة النص الكتابي في ضوء الخلفية التاريخية للكاتب ولجمهور القُراء الأوائل، وعدم اقتطاع النصوص من سياقها الأدبي .
يستخدم العديد من المسيحيين مقولة الرسول بولس الشهيرة "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (في١: ٢٣)، مبدين بها رغبتهم الشديدة للموت على اسم المسيح بمنتهى الفرح على مثال بولس... والسؤال هنا، هل هذا ما كان يقصده بولس؟؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أولاً النظر إلى الخلفية التاريخية لنص رسالة فيلبي. يكتب الرسول بولس الرسالة وهو في السجن نتيجة كرازته بالإنجيل وسط الأمم. السجون الرومانية وقتها كانت معروفة بوحشيتها وقسوتها في تعذيب المسجونين وبالأحرى المسيحيون؛ اعتقاداً منهم أن المسيحيين خطراً على أمن الامبراطورية. كان بولس قد كتب هذه الرسالة لأهل فيلبي لعدة اسباب، منها تشجيعهم على الصمود وقت الإضطهادات، وطمأنتهم على اخباره في السجن أنه بخير.
في (فيليبي ١)، نجد بولس يشجعهم بأن ألامه وضيقاته أدت إلى انتشار الإنجيل أكثر، وهذا أمر يفرحه كثيراً... ويؤكد لهم أنه على استعداد أن يموت، ولكن بهدف واحد؛ ألا وهو: أن يتعظم اسم المسيح (في١: ٢٠)!
فبولس لم يرغب في الموت ليتخلص من ألامه فيكون الموت حداً ونهايةً لها، وإنما لأنه يعلم كمؤمن أن موته سيكون سبباً لتعظيم اسم المسيح، وهو يختار ذلك بإرادته وليس مُرغمٌ عليه.
والسؤال هنا: ما هو الدافع وراء الرغبة في الاستشهاد التي تظهر وسط الشعب المسيحي فور حدوث أي عملية إرهابية ينتج عنها قتل وإصابات؟؟ هل لنثبت لمن حولنا أننا لا نخاف الموت؟؟ أم أنها حماسة ناتجة عن انتمائنا الكنسي؟؟ هل نحن نرغب بالفعل في الاستشهاد ليُعظم اسم المسيح أم لأهدافٍ أخرى تتعلق بالهوية والقومية والبقاء؟!
يستكمل بولس مُخبراً اياهم أنه بين أمرين: الأمر الأول وهو الانطلاق ليكون مع المسيح وذاك أفضل جداً (بالنسبة له كشخص مؤمن له علاقة حية مع الله)، والأمر الثاني وهو أن يبقى لأجل خدمة شعب الله (وهو الجزء الثاني من النص الكتابي والذي غالباً لا نقرأه). وفِي النهاية يختار بولس أن يظل في الجسد لأجل منفعة جسد المسيح وخدمة أعضاؤه. وفي ختام رسالته يشجعهم بولس على السلوك بمبادئ الإنجيل، ويشجعهم على الإيمان بالمسيح والتمسك به كمصدر قوة وحيد وسط ألامامهم.
هنا، لا نرى في هذا النص أي تشجيع أو تحريض على الذهاب للاستشهاد، ولا نرى بولس نفسه يُفضل الموت على البقاء في الحياة؛ بل على النقيض تماماً، نجد بولس في باقي الرسالة يتحدث عن طموحاته الروحية في الحياة على سبيل تشجيع مؤمني فيلبي أن يتمثلوا به (في٣).
بولس الرسول هنا يُعلمنا التمسك بالحياة لإجل هدف عظيم، وهو خدمة رسالة الإنجيل... وإن لم يكن هناك مفراً من الموت، فليكن موتنا لإجل إكرام وتعظيم اسم المسيح يسوع، وليس لأهداف أخرى. " لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ" (رو١٤: ٨).
نتيجة لذلك الطرح، ما هو الدور الذي يجب القيام به كمؤمن مسيحي أمام ما يحدث من إضطهادات على الكنيسة؟؟
الإحساس وليس الوعظ: هو أهم أمر يحتاج إليه الشخص المتألم هو أن يجد من يشعر به وبظروفه وبضيقته، لا من يعظه بكلام روحي جاف متجاهلاً بوعظه هذا حالته النفسية المتأزمة. فالمسيح أمام موت لعازر انزعج واضطرب وبكى (يو١١: ٣٣-٣٥). يوصينا الرسول بولس أن نكون " فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ" (رو١٢: ١٥). إذا اخترت أن تعظ متألم فتأكد إنك اخترت أن تخسره  بل وتُزيد من الامه.
التعزية بعيدًا عن الإدعاء. إذا جاءت أمامك الفرصة لتتحدث أمام شخص متألم أو لجماعة متضايقة، وكانوا على استعداد لسماع كلمة تعزية. خذ حذرك جيداً من كل ما تقوله لأن كلماتك ستترك أثراً كبيراً داخلهم (سواء كان إيجابياً أم سلبياً). لا تقدم تأملاتك الشخصية عن الموقف عن هؤلاء الشهداء الذين يتربعون على العروش بجانب الله، لا تعط نفسك الحق في اعلان مصائر الناس.
لكن ماذا عن الغفران والانتقام؟! تُعلِّمنا كلمة الله أن نغفر لمن اساء إلينا، وإن كنا غير قادرين أن نفعل ذلك فلنطلب من الله أن يعطينا هذا الغفران الذي غفر به لصالبيه. ولكن مع طلبنا لهذا الغفران لا ينبغي لنا أن ننسى أن الإله الذي نعبده "إِلهُ أَمَانَةٍ لاَ جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ" (تث٣٢: ٤)، لا يُسر بالشر (مز٥: ٤(، وهو ديان كل الأرض (تك١٨: ٢٥). نحن علينا أن نطلب الغفران لا ان نطلب الانتقام من الله. وبينما نحن نغفر، فعدل الله هو ما يعطينا رجاءً أن الظلم والجور سينتهي في وقتٍ ما، وهذه هي صرخة الشهداء الذين قُتلوا لإجل كلمة الله: "وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟» فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَابًا بِيضًا، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَانًا يَسِيرًا أَيْضًا حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضًا، الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ" (رؤ٦: ١٠-١١( . وسيأتي الوقت الذي لا يكون فيه ألم ولا حزن ولا بكاء، حين نكون مع الجالس على العرش إلى الأبد "وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ" (رؤ٢١: ٤). لكن الله لا يُعلن انه سيحقق انتقامًا ارضيًا، الله ينتقم انتقامًا ابديًا من الشر ومن الشرير، لذا فنحن لا ننتظر انتقامًا ارضيًا بل نطلب غفرانًا وان يلمس الله قلوب الذين يضطدوننا.
كيرلس عياد

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.