التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نحو لاهوت سياق قبطي: إعادة المعمودية

"قال يسوع:
الله جعل السبت للإنسان،
وما جعل الإنسان للسبت" (من اقوال يسوع، مرقس 2)
التقليد وقوانين الاباء والسياق المعاصر
الكنيسة القبطية هي كنيسة تقليدية، لكنها في ذات الوقت ليست اسيرة هذا التقليد، فقد طورت الكنيسة التقليد بحسب ما يتسق وظروف كل فترة عبر العصور . يمكن ان ننظر الي الخلاف القديم حول اعادة المعمودية من عدمه بحسب سياق عصره وظروفه، الان لم يعد هناك دوناتيين ولا اريوسيين ولا مرتدين، لم تعد هناك تلك الازمات التي صاغت تلك الخلافات والتي اتخذت طريقان متضادان (بين مؤيد ومعارض). بل هذا الخلاف القديم (المؤيد والمعارض)، هو دليل دامغ ان المتحكم في هذا الجدال (حتى في أمور أخرى غير المعمودية) كانت سياقات وظروف العصر، والا كانت النتيجة كانت قد اصبحت الاتفاق التام في الاراء.

علينا اذًا، ان ننظر الي قضية اعادة المعمودية، في ضوء سياق العصر الراهن، بعيدًا عن السياقات التاريخية المؤسسة للخلاف القديم. أي اكتشاف الاخر على اسس وقواعد جديدة لا من خلال خلافات الماضي ومصطلحات قرون مضت. فكما ذكرنا، الخلافات القديمة –سواء معها الحق او جانبها- فقد كانت لها اسبابها وسياقها الخاص بها الذي لم يعد موجودًا الآن. لذا يجب التعامل مع الاخر واكتشافه من خلال واقعه هو وواقعنا الحاضر، من خلال افكاره الحالية وعقائدة الماثلة امامنا بحسب ما يؤمن بها، لا من خلال ما فعله وما ارتكبه من قرون ولت. ان التوقف عند الماضي، لن يأتي ابدًا بالمستقبل. وهذا يدفعنا نحو النقطة التالية (سنناقشها بالاسفل): هل الكنيسة الكاثوليكية كنيسة مسيحية؟ ام كنيسة هراطقة؟!
كبريانوس كنوذج للسياق
كبريانوس هو أحد اللذين قرروا "إعادة" المعمودية الخاصة "بالهراطقة". لكن، لابد من فحص اسلياق أولاً، "يرتبط نشاط القديس قبريانوس الأدبي ارتباطًا وثيقًا بالأحداث التي عصفت بحياته وعبرت زمانه. فكتاباته معظمها، تنطلق من ظروف خاصة قد وُضعت اساسًا لخدمة غايات عملية."[1]فقد عاصر كبريانوس واحدة من اكثر فترات الاضطهاد وحشية على يد ديسيوس حتى ان كبريانوس نفسه هرب بعيدًا عن قرطاجة. أدى هذا الاضطهاد الوحشي الي ان الالاف من المسيحيين اشتروا شهادة تقرر انهم قدموا ذبائح الولاء والعبادة للامبراطور، الا انهم فعليًا لم يكونوا قد انكروا الايمان، في حين البعض الاخر قدم الذبائح فعليًا. وبعد انتهاء تلك الفترة، اطلق على المجموعتين اسم المرتدين او الساقطين. هنا ظهرت عدة مشكلات: هل من الممكن قبول هؤلاء المرتدين مرة اخرى في الايمان ام لا؟ ادت الاجابة عن هذا السؤال الي انشقاق داخلي في الكنيسة. حيث قرر كبريانوس قبول هؤلاء في الشركة مرة أخرى، اما الاسقف نوفاتيوس (الذي سيم من قبل اساقفة رافضون لقبول المرتدين) واتباعه فقد رفضوا تمامًا قبول هؤلاء، وانشأوا كنيسة بديلة، وبدأوا في سيامة عديد من الاساقفة. هنا رفض كبريانوس معمودية النوفاتيون، لأنه اعتبرهم منشقون عن الكنيسة  واعلن انهم لا يمكن ان يكونوا كنيسة حقيقية فهؤلاء "الاشرار من تلقاء انفسهم يقيمون اساقفة بدون اي تسليم رسولي، ويتخذون لأنفسهم اسم اسقف رغم ان احدًا لم يقيمهم للأسقفية." (عن وحدة الكنيسة 10).[2]
كان قرار كبريانوس نابعًا اذًا من سياق شديد التعقيد، اعتبر فيه النوفاتيون منشقون عن الكنيسة "هراطقة" (وهذا امر مختلف عن النظرة القبطية للكنيسة الكاثوليكية مثلما هو واضح في الاتفاقات الكريستولوجية وغيرها التي يتم اقرارها بين الطرفين)، وان معموديتهم باطلة لأنهم سيموا بدون اي تسليم رسولي او سيامة من الكنيسة الاصلية (اعتبر كبريانوس نفسه الاسقف المسؤل عن الكنيسة لأنه بما ان الكنيسة واحدة فالاسقف ايضًا يجب ان يكون واحد: الرتبة والسلطان واحد حتى تظهر كنيسة المسيح على انها واحدة (وحدة الكنيسة 4)) وهذا امر مختلف عن الكنيسة الكاثوليكية التي لديها خلافة وتسليم رسولي.
هنا، يمكن ان نفهم كيف ان السياق الخاص بكبريانوس والظروف التي شكلت لاهوته ووعيه مختلف كليًا وتمامًا عن السياق الحالي.
الكنيسة الكاثوليكية والإيمان المشترك
الكنيسة الكاثوليكية هي كنيسة "مسيحية" تؤمن بقانون الإيمان النيقاوي؛ أي هي "تعترف بالرب يسوع المسيح إلهًا ومُخلصًا، وتسعى لتمجيد الآب والإبن والروح القدس". وهي عضو مع الكنيسة القبطية في مجلس الكنائس العالمي الذي يُعرفه دستور المجلس أنه "تجمع ودي للكنائس التي تعترف بالرب يسوع المسيح إلهًا ومُخلصًا وفقًا للكتاب المقدس، لذلك يسعى إلى ان يحقق دعوتها المشتركة تمجيًدا للإله الواحد الاب والابن والروح القدس."
تعترف الكنسية الكاثوليكية بضرورة الايمان لتقبل الخلاص الذي يتجسد في المعمودية وينطلق منها، وهو تعترف أن المعمودية مرتبطة بالايمان بيسوع المسيح كإله ومخلص، وبالإيمان بالثالوث القدوس. وهي علامة الحياة الجديدة في يسوع المسيح، حيث نموت معه وندفن معه ونقوم معه. وحيث ان الكنيسة الكاثوليكية لديها خلافة رسولية وكهنوت مشرطن فلا يجب اذا التساؤل عن اصالة ممارسة سر المعمودية فيها، فهي تمتلك نفس الايمان الخاص بالمعمودية الذي نملكه.
وبالنسبة للكنيسة القبطية فالكنيسة الكاثوليكية تُقر معنا "أن لنا ايمانًا واحدًا، بإله واحد مثلث الأقانيم، وبلاهوت ابن الله الوحيد الاقنوم الثاني من الثالوث القدوس، كلمة الله وضياء مجده وصوره جوهر.... نؤمن معًا أن الحياة الإلهية تُمنح لنا بواسطة اسرار المسيح السبعة في كنيسة" (من البيان المشترك الذي وقع عليه البابا بولس الثاني والبابا شنودة الثالث بتاريخ 10 مايو 1973 في الفاتيكان). إذًا الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة للكنيسة القبطية هي كنيسة مسيحية وليست كنيسة هرطوقية.
ان عدم الاعتراف بمعمودية الكنيسة الكاثوليكية رغم كل ما سبق وذكرناه، هو اقرار ضمني ان المعمودية في الكنيسة الكاثوليكية هي معمودية غير فاعلة، وهو امر غير حقيقي. ولا يجب ربط المعمودية وايمانها باختلفات اخرى بين الطائفتين، فما نتفق فيه نتحد فيه، في خطوة خطوة تجاه الوحدانية.
ان المعمودية هي المبدأ الاول لوحدة الكنيسة ونقطة الانطلاق إليها، يضع بولس الرسول في حديثة عن "وحدانية الروح برباط السلام" (اف 3:4) المعمودية كمحور ارتكاز لهذه الواحدانية: "جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم في رجاءء دعوتكم الواحد. رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكل" (اف 4:4-6)، وهو تأكيد على تتميم المعمودية في "إسم يسوع" وتُمنح "بإسم الاب والابن والروح القدس." (انجيل متى) و هي الصيغة "العقائدية" للمعمودية.


[1] جورج رحمة (الاب), قبريانوس القرطاجي, سلسلة عظماء المسيحية في التاريخ 9 (لبنان: المركز الرعوي للأبحاث والدراسات, 1993), 21.
[2] مرقوريوس الانبا بيشوي (الراهب), مقالات القديس كبريانوس اسقف قرطاجنة الشهيد (القاهرة: بدون, 2008), 51.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

الثاليا: قصيدة آريوس، مقدمة وترجمة

الآريوسية هي المسيحية الحقيقة: "المسيحية الموحدة بالله"، قَدَمَ هذه الفكرة أحد الكتاب المصريين ونشرها في احد الجرائد الرسمية، وكتب عدة مقالات متفرقة عنها. ووصف آريوس والآريوسيين بالـ "مسيحيين الموحدين بالله"، وكان القصد من ذلك الإشارة أن المسيحية الأرثوذكسية التي واجهت للآريوسية لم تكن موحدة بالله لوجود فكرة الثالوث ، وان آريوس – كحامل للمسيحية الصحيحة- قدم المسيح كإنسان ونبي. لكن في مجمع نيقية تم الحكم على آريوس ظلمًا وإختراع فكرة الثالوث وتأليه المسيح.