التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المسيحي و فيروس لكورونا: ثلاثة أفكار

المسيحي و فيروس كورونا: ثلاثة أفكار

(1)
إن أسوأ مثال يمكن أن يقدمه المسيحي للإيمان في عالم اليوم هو التحدي الغيبي لكل معايير السلامة التي يحاول العالم أن يفرضها من أجل السيطرة على الجائحة التي أصابته. هنا، المسيحي لا يساعد العالم في شيء، إنما يُقَدمُ رسالة أن الإيمان المسيحي هو إيمان "أناني، لا يكترث للعالم من حوله!" و أن إلهه هو إله "حصري، لا يكترث إلا لأتباعه!."
في الواقع، إن المعجزات التي تمت من خلال الأنبياء في العهد القديم، أو من خلال يسوع نفسه في العهد الجديد لم تكن تتم في إطار إلهي منعزل ومنفرد عن مجريات العالم بل كانت تتطلب عمل بشري يعمله الإنسان أولاً ومن ثم يتدخل الله بعدها ليحقق مشيئته.
إن الإيمان الغيبي الذي يضع الله موضع تجربة للتدخل وإنقاذ الإنسان هو إيمان في غاية الخطورة ليس فقط لأنه يُجرب الله لكن لأنه يجعل المسيحية تتمركز وتتمحور حول الإنسان ولأجل الإنسان فقط. في حين أن الحقيقة هي أن الإيمان المسيحي يتمركز ويتمحور حول الله وعمله الخلاصي. بالتالي فالإيمان هو إيمان موقف تجاه هذا المركز وهذا المحور وهو الله، لهذا نحن لا نُجرب الله بل نمجد الله.
ويمكن القول إن دور وموقف الإنسان الايماني تجاه العالم يجب أن يكون أكثر مسؤولية في ضوء أن سوء إدارته للعالم -الذي وكله الله عليه- كانت السبب في انتشار العديد من الامراض الفيروسية انتهاءًا بالCOVID-19 الذي يُرجح انتقاله من فيروس يصيب الحيوان إلي فيروس يصيب الإنسان في أسواق مدينة ووهان الصينية.
(2)
أننا كمسيحيين نؤمن أن الله هو السيد المطلق وصاحب السلطان على كل العالم والخليقة. ومن هذا المُنطلق، نحن نعمل كل استطاعتنا تجاه حفظ وصون خليقة الله كجزء من الوصية العظمي المُعطاة من الله في سفر التكوين. ودورنا كمسيحيين ليس فقط أن نُصلي لأجل الجائحة بل أن نعمل كل ما باستطاعتنا في الصفوف الأولى للحد منها.
في القرون الوسطى لعبت الكنيسة دورًا هامًا في السيطرة على الوباء ورعاية المرضى الذين كان يهرب منهم الجميع حتى وصلت نسبة الوفيات بين الاكليروس إلى 45%. اليوم ربما لا يحتاج العالم إلى هذا النوع من الأدوار الرعائية من الكنيسة في ظل وجود المستشفيات وأماكن الرعاية الصحية، لكن ما يحتاجه العالم الآن ليس فقط مساعدة الهيئات المسؤولة بل المُبادرة في اتخاذ قرارات وقائية وارشادية للناس تساهم في الحد من انتشار الوباء.
نعم، إننا كمسيحيين نُسلم ونؤمن أن مشيئة الله هي التي تكون، وأنه هو السيد وصاحب السلطان. وهذا لا يعني أن ننكر مسؤوليتنا ونُلقي بكل شيء على الله، لكن المطلوب هو أن نُنَفذ ما علينا أن نفعله في إطار الوقاية والتوعية ونحن مسلمين كل شيء في يد الله ولدينا إيمان كامل أنه سيد كل شيء.
يُشير اللاهوتي الأرثوذكسي جون بريك حول إمكانية انتقال فيروس بواسطة أدوات التناول (لاحظ أننا هنا نتكلم عن الأدوات المُستخدمة لا عن العمل الإلهي السري في الافخارستيا) قائلاً: "قد يكون الاقتناع بأن الله يسمح بذلك مبني على لاهوت تجسد خاطئ. فالصليب هو الدليل على أن الله قد سمح بذلك بالفعل..." (الحياة هبة مقدسة، ص199)  ويُضيف "فالمناولة المقدسة هي بالفعل جسد الرب الممجد ودمه مع انها تقدم إلينا عبر الخبز والخمر. كون هذين العنصرين تقدسا يعني أنهما تغير أي امتلأتا وتحولا بحضور الروح القدس وقوته. هذا لا يعني أنها اقصيا من دائرة الحياة البشرية أو انهما تحولا بطريقة سحرية الي مادة سامية" (الحياة هبة مقدسة، ص200). فالافخارستيا هي عمل يتم للشركة في جسد المسيح، وهي عمل سرائري لا يُرى بالعين المُجردة لكنه في ذات الوقت عمل لا يهدف للتدخل وكسر قوانين العالم الساقط بل يهدف لاجتذابنا نحن المؤمنين به إلى حالة الاتحاد بالمسيح خارج هذا العالم الساقط.
(3)
عبّرَ مارتن بوبر قائلاً "ليس العالم مكان التعامل الحقيقي للإنسان مع الله وحسب بل هو موضوع هذا التعامل. فالله يُخاطب الإنسان مباشرة من خلال الأشياء والكائنات التي يضعها في حياته، ويرد الإنسان عليه من خلال طريقة سلوكه تجاه هذه الأشياء" (Le Message Hassidique, 153). إن سلوك الإنسان المسيحي تجاه العالم المُحيط به، ليس هو فقط المُعبّر عن حقيقة إيمانه بل أيضًا يُمجد الله أمام البشرية جمعاء.
يُشير الأب سامي حلاق أن يسوع طلب من اتباعه "أن يسلكوا سلوكًا يجعل حياتهم على الأرض انعكاسًا لصلاح الملكوت السماوي" (أوراق بيئية، 262). ولن يتم هذا بأن يقدم المسيحيين إيمانهم في صورة سلوكيات تزيد العالم ذعرًا وتتحدي محاولاته لاحتواء الوباء، لكن سيتم بأن يكون المسيحيون رائدين ومبادرين في مساعدة العالم على تجاوز المحنة مقدمين من خلال سلوكياتهم يسوع المسيح إله الرجاء والمحبة والغفران والسيادة والسلطان في هذا العالم الساقط. إن مساعدة العالم على رؤية حقيقة يسوع والحاجة إليه في خضم هذا الألم لن يكون قط بالكلمات بل بالسلوك المسيحي الحقيقي فتنفتح أعين الآخرين تجاهه.
(4)
***نقطة اضافية هنا للتوضيح:
بالرغم أنه يجب التفريق بين الهدف من الافخارستيا نفسها وبين الشكل الطقسي القابل للتعديل. إلا أنني هنا لا أناقش تغيير شكل الممارسة الطقسية من عدمه. أنا هنا أناقش مسؤولية المسيحي في إطار الصورة الأكبر تجاه ما يحدث من حوله في العالم. اللافت للنظر أن التقدم الافخارستيا هو المرحلة الأخيرة من صلوات القداس، وتسبقها احتمالات عدوى كبيرة خاصة في ظل الازدحام والتكدس وسوء الانتباه للسلامة الشخصية.

مرة أخرى، أنا هنا أناقش صورة أعمق وأكبر وأهم -من خلاف لا طائل منه حول الشكل الطقسي المفترض- وهي عن دور المسيحي وموقفه ومسؤوليته تجاه العالم وما يحدث فيه***
لنصلي ونعمل. آمين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.