التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الجماعة المسيحية، المسؤولية، وفيروس كورونا


(1)
يُفترض بالجماعة المسيحية (أي: الكنيسة) أن تعكس صورة الله تجاه المُجتمع، لا عن طريق عظات نظرية بل عن طريق تطبيق عملي تجاه مجتمعها. يُعطى يسوع إشارة لمثل هذه المسؤولية المجتمعية: "تعالوا إلى يا مباركي أبي، رثوا الملك المُعد لكم منذ إنشاء العالم: لإني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، وكنت مريضًا فعدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليَّ" (مت 24: 34-36). وبخلاف المسؤولية المجتمعية المنصوص عليها في كل من العهد القديم والعهد الجديد، فنحن نرى تلك المسؤولية الاجتماعية تحتل مركزًا مهمًا في الكتابات المسيحية المُبكرة.

على سبيل المثال، باسيليوس الكبير يقول للأغنياء أنهم مؤتمنون من الله على غناهم، فلا يجب أن يحتفظوا به وحدهم بل يعطوا للجميع ولا سيما الفقراء (باسيليوس الكبير، عظة 6). بل وفي نفس العظة يتحدث عن الاحتكار "لا تستثمر الضيقة لترفع الأسعار، لا تنتظر القحط لتفرع أهراءك... لا تكن تاجرًا للنكبات البشرية." (عظة 6. 3). كذلك امبروسيوس، وكبريانوس، ويوحنا ذهبي الفم كان لهم اهتماما خاصًا بالدور الاجتماعي للجماعة المسيحية.
لكن أشهر من قدم تعليمًا عن المسؤولية الاجتماعية للجماعة المسيحية هو أغسطينوس. على الجماعة المسيحية أن تكون صدى للعالم السماوي طالما لازالت قائمة في قلب التاريخ. ولهذا، فهي كمدينة سماوية: "في كل الزمن الذي تحيا فيه منفية على هذه الأرض، تدعو إليها من كل الأمم مواطنين، وتضم في مجتمعها غرباء من كل لغة، دون أن تهتم لتنوع الأخلاق والشرائع والمؤسسات، التي بفضلها يقوم السلام أو يستقر على الأرض؛ فلا تقتطع منها شيئًا، ولا تهلك شيئًا، بل تحفظ وترهى كل ما يقود، على الرغم من تنوعه في مختلف الأمم، الغاية الوحيدة عينها، ألا وهي السلام الأرضي." (مدينة الله 19. 17-18).
(2)
لعبت الكنيسة دورًا هائلاً في أثناء الأوبة (خاصة الطاعون) التي اجتاحت العالم منذ زمن طاعون جوستنيان (541م) وحتى يومنا هذا. ليس فقط عن طريق الاهتمام بالمرضى والمصابين الذين لفظهم المجتمع خوفًا من العدوى ولم يجد من يهتم بهم وقد نتج عن ذلك موت كثير من رجال الكنيسة والمجتمع المسيحي بالعدوى، ولا أيضًا في الأمثلة الأخرى التي نجدها خارج تاريخ الكنيسة وفي سير القديسين عن هؤلاء الذين لعبوا دورًا مجتمعيًا هامًا لمساعدة الفقراء والمرضى والمشردين مثل القديسة فيرينا، بل أيضًا في التوعية والاستنارة، في القرن الرابع عشر في أوروبا تم إتهام اليهود أنهم السبب في الطاعون مما أدى لنشوب عنف ضدهم، مما حدا بالبابا كليمنت السادس بإصدار مرسوم بابوي لكبح الأمر، كما رفض البابا كليمنت أيضًا تصرفات الجماعات المسيحية التي اتجهت لجلد أنفسها بالسياط المليئة بالمسامير لاعتقادهم أن الطاعون عقاب إلهي على خطاياهم يتطلب منهم توبة قوية، واتهمها بالهرطقة وتقديم آمال كاذبة للمناطق المتضررة من الطاعون الأسود أن الله سيرفعه بأعمال التوبة المزعومة هذه.
(3)
الآن، في مصر، على الجماعة المسيحية أن تنهض حالاً وتتحلى بالمسؤولية الاجتماعية الخاصة بها تجاه مجتمعها في ظل جائحة فيروس الكورونا الذي يجتاح العالم. حتى الآن، تبدو الجماعة المسيحية واهنة جدًا، بل ومُتراجعة إزاء هذه المسؤولية. فهي حتى الساعة، تهتم بشؤونها الخاصة، وتتداخل فيما بينها في خلافات وهمية حول سماح الله بانتقال المرض للمسيحيين من خلال السرائر الكنسية، وتخشى أيضًا أن تؤدي الجائحة إلى إغلاق أبواب الكنائس وتوقف العبادة الليتورجية بها.
ما تفعله الجماعة المسيحية في مصر الآن هو عكس تمامًا ما فعلته الجماعة المسيحية في بدايتها وحتى العصر الحديث. بل هي تقدم أسوأ صورة للعالم، فهي تدفعه للتساؤل: إله المسيحيون ما الجدوى منه؟!. على عكس ما كنت تفعله قديمًا، فهي التي لم تكن لتهاب أي شيء مثل هذه الجائحة من أجل سلام وسلامة المجتمع. وليس هذا فقط، بل كانت تتقدم إليه مضحية بنفسها لتضمد جراحاته وتعكس له صورة المسيح الذي أخلى ذاته الحقيقية.
سرّ المسيح هو حقيقة لن يلمسها المجتمع الخارجي في خطابات متلفزة أو عظات تبشيرية، بل هو حقيقة لا يمكن التلامس معها دون اختبار حقيقي تقدمه له الجماعة المسيحية (التي هي جسد المسيح) في عمق أزمته. بالتأكيد، يمكن للجماعة المسيحية أن تتوقف عن صلواتها الليتورجية الجماعية لبعض من الوقت، لا لكي تهرب من الجائحة بل كي تنطلق من مسؤوليتها الاجتماعية تجاه الحفاظ على المجتمع الذي تحيا فيه. وهي هنا إذ تبذل نفسها كذبيحة حب مُخليتًا ذاتها لأجل الآخرين، فهي هكذا تقدم عبادة حقيقية لله.
لنصلي. آمين
رابط المقال الأول
https://www.freeorthodoxmind.org/2020/03/blog-post.html
رابط المقال الثاني
https://www.freeorthodoxmind.org/2020/03/blog-post_18.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.