التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كنيسة مُتعثرة في عالم تافه

 عالم تافهة

يُمتلئ العالم بالكُتّاب، بينما لا يوجد قارئون بالعدد الكاف. وبينما ترزح وسائل التواصل الاجتماعي تحت وطأة آلاف الفقرات المكتوبة لآلاف الكُتاب المزعومين؛ إلا أن مُعظمها لا يعدو كونه كتابات تافهة. وأدى الظمأ العام لإشارات الإعجاب، وتعليقات المديح إلى خلق قراء تافهين، يستهلكون تلك الكتابات التافهة، ومستحثين مزيدًا منها.

تمَّ التخلي عن الكتابة المسؤولة ذات الألفاظ الدقيقة والمفهومة، لصالح كتابة تافهة تتعمد أن تتسم بالغموض، في مزيج رديء ومائع من اللغة العربية واللغات الأجنبية (على الأرجح الإنجليزية)، مع متقطعات لفلاسفة وعلماء وخبراء مزعومين لابد أن تسبق أسمائهم سابقة الـ"د."

لا يقتصر الأمر على الكتابة. فهناك أيضًا الوسائط المرئية التافهة. تعمل الصورة الساخرة من أي شيء وكل شيء إلى تتفيه القضايا الجادة. وكلما انزلقت الأمور الجوهرية على منحدر التفاهة، كلما فقدت أهميتها ونوعيّتها واتزانها لدى المجتمع. كما تعمل مقاطع الفيديو التافهة التي يجعل فيها الناس من أنفسهم تافهين، إلى خلق مشاهدين تافهين جدد؛ بينما تنسل الأموال إلى جيوب صناع هذا المحتوى؛ جاذبة مزيد من الصُناع التافهين.

وبجانب الكتابة، والوسائل المرئية، هناك الأسواق التافهة. تعمل وسائل التواصل الحديثة على تسويق أي شيء تقريبًا من البضائع المرموقة، إلى تجارة البشر. وبين هذا وذلك، تقبع سلسلة لا متناهية من البضائع الاستهلاكية، المنزلية الصنع أو رديئة الجودة، التي لا تُفيد؛ لكنها تثير شهية المستهلكين التافهين.

تعمل التفاهة من هذا النوع على إعادة تشكيل الوعي الذاتي بأكمله، فتخلق وعيًا زائفًا بالنفس، المكانة الاجتماعية، الثقافة، والشعبية لدى كل من صُناع المحتوى والمستهلكين في عملية تغذية مُتبادلة للوعي الزائف؛ لتخلق شخصية أنانية نرجسية ومصابة باعتلالات اجتماعية. يعمد مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تقديم الصورة التي يتوقون إليها، دون أي محاولات فعلية لتحويل تلك الصورة الزائفة إلى واقع.

كشف التقرير الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر عن عدد حالات الطلاق لعام 2021 لارتفاع بنسبة 14.7% عن عام 2020؛ كما كشف أن السواد الأعظم لعدد الطلاق هي للمتزوجين من سن 25 سنة إلى 35 سنة. وفي بيان استعرضته الوزيرة نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي، أمام مجلس النواب بتاريخ 4 ديسمبر 2022، أشارت "إلى أن هناك ارتفاع كبيرة جدا من نسب الطلاق، حيث وصلت النسب 25% من كل 100 حالة، وأعلي نسبة طلاق من 20 إلى 30 سنة." كما كشف دراسات علمية متفرقة خلال العامين الفائتين أن "فيس بوك" بوجه خاص، ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام أصبحت هي السبب الرئيس من أسباب الطلاق حول العالم. إن دراسة هذه التقارير ومثيلتها بصورة أكثر استفاضة يشي باضطراب المفاهيم الاجتماعية، واضطرابات الشخصية، والتمحور حول الذات.

كنيسة مُتعثرة

يُفترض أن تسعى الكنيسة لأمرين: الأول، أن تقدم رسالة الإنجيل للجميع؛ الثاني: أن تعكس صورة الثالوث للجميع. لكن، بينما تحاول الكنيسة إدراك سياقها المتغير يومًا بعد يوم، تنزلق هي الآخر إلى منحدر التفاهة. إن محاولة الكنيسة تقديم "رسالة اجتماعية" مُجردة، أو "تنمية بشرية" مُجردة وغير مصحوبة برسالة الإنجيل الكاملة، هو تتفيه لرسالة الإنجيل. تسعى الكثير من اجتماعات الشباب في كنائس اليوم، إلى تقديم "ما" يُريده الحاضرون، أو ما يريده الذين تبتغي حضورهم. وجلَّ ما يريده الكثير هو "إنجيل تافه" ومُقتضب، متمركز حول ذواتهم. رسالة الإنجيل هي رسالة ثابتة وواحدة وغير متغيرة. يمكن تقديمها في سياقات متعددة بطرق لا تُحصى؛ لكنها في النهاية الرسالة التي يُريد الله ارسالها وليس الرسالة التي يُريد الحضور سماعها.

إن اهتمام الكنائس بالشكل الخارجي، المباني، الأندية، المشروعات، إلخ هو جزء من الانزلاق على منحدر التفاهة. وأدت تنحية الإنجيل جانبًا لحساب الخطاب الشعبوي، إلى دعم وجود روحانية تافهة.

تتناقض رسالة الانجيل مع منظومة التفاهة، فجماعة الشركة (أي كنيسة) جذورها على التواضع والاخلاء، والمُشاركة، والمحبة، والعمق. بينما تتأسس رسالة الإنجيل على عمل المسيح الفريد في تجسده وموته وصلبه وقيامته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.