عزيزي،
أنت
تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ
الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك
تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين
المعاصرين تحقيقه.
ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.
عزيزي،
عليك
أولاً، قبل كل شيء أن تُدركَ أن الإيمان هو مثل الكرمة، لا ينمو فقط في تربة الاضطهاد
المُلطخة بالدماء، أو في صحاري النُساك والسائحين؛ بل هو قد تأسس في قلب العمران "في
قرى ومدن إسر&ائيل" ونما من خلاله. دعني أقدم لك شيئًا من الماضي الذي
لايزال حاضرًا، فلازال قسم من المؤمنين في الوقت الحاضر يعاني من الاضطهاد
والاستشهاد، خاصة في آسيا وأفريقيا. وبينما الغالبية العظمى من المسيحيين يبدو
أنهم يسكنون عوالم الحرية والهدوء، فهم في الحقيقة يحاربون وحوش أكثر ضراوةً من
أسود قرطاج، ويقاومون مجالدين يَعْمَلون حِرَابهم في النفس والجسد.
عزيزي،
إن
أولئك الذين يسيرون في طرقات عصرنا المضاءة بنور الشمس، وقد هربت من أمامهم ظلال
الاضطهاد الكلاسيكي، هم محاصرون اليوم بموجات لا هوادة فيها من الشك، حيث تهاجم
سهام العقلانية المطلقة أسس الإيمان لتزعزعه. تتصارع مبادئ الإيمان مع عواصف الشكوك
والتساؤلات المُضنية، وتبحر في بحار الفكر المضطربة والغامضة. يموج عالم الانترنت
الصاخب بهذه الوحوش، كل يوم، كل لحظة، تسدد سهامها نحونا.
ومن
ينجو من محيطات الشك الهادر، ربما تجتذبه فخوخ التحرر الجنسي، الذي يلقي وهجًا
مغريًا تتوه فيها الحدود المقدسة للاستقامة الأخلاقية. في كل لحظة تنبض شاشاتنا
الالكترونية بلوحاتٍ مرسومة بعناية تدعونا أن ندلف لجب هذا الذئب المُخادع، لنسترق
لحظة أو بعض وقت. وبينما ندلف، تلتف فخوخه حول رقبانا وعقولنا، مدنسة حواسنا
وأرواحنا وقلوبنا. في عالم اليوم، يضطهدنا الخفاء، في مفارقة عن الماضي. في القديم،
كان الهروب هو من العلن إلى الخفاء، بينما اليوم فالخفاء هو المضطهد الأول، الذي
يجب أن نهرب منه إلى العلن.
عزيزي،
ليس
هذا كل شيء!
اليوم،
يجد المؤمنون أنفسهم على وشك الضياع في دروب المتاهات النفسية، يتنقلون بين الخطوط
المتعرجة الوحشية للعالم الرأسمالي الذي، في سعيه الدؤوب وراء المادية، يُخضعهم
لدورة متواصلة من الإرهاق، والقلق، والتيه، والقمع. لتطغى الأزمات الاقتصادية
الجامحة على المشهد الروحي، تاركة المؤمنين يصارعون بين أنقاض اليقينيات المحطمة، والاضطرابات
النفسية التي تهدد بابتلاعنا، حيث يطحننا العالم الفاسد والساقط إلى غبار، لنتساءل
منهكين: أين الله وسط كل هذا؟
عزيزي،
وسط
نشاز العالم المعاصر، تَهمسُ ما بعد الحداثة بأنشودة عدمية، حيث المعنى والحقيقة
يتبددان مثل بخار. لقد أصبح نسيج الواقع ذاته موضع تساؤل، ويواجه المؤمنون فراغًا مقلقًا،
حيث يهدد كل من اللا معنى واللايقين بابتلاع أسس الإيمان ذاتها. وبينما الإيمان في الماضي كان حصنًا من العقيدة، ففي عالم ما
بعد الحداثة صار حديقةً تنمو فيها بذور الشك، وتفككها مقصيةً الحقيقة، والمعنى،
والوجود، والواقع.
عزيزي،
مع
ذلك، حتى في مواجهة هذه التجارب، فإن الإيمان لازال يومض. إنه يتجلى في تحدي الأم
التي تواجه مصاعب لا يمكن تصورها مع أطفالها الجوعى، في الكرم الهادئ لشخص غريب
كسامريٍ صالح، في الصلاة الهامسة بجانب سرير المستشفى. إنه يعيش في الصلوات
اليومية التي تطلب معونة وقوة متحصنة بإله له كل السيادة والسلطان رغم كل شيء، في
الفن الذي يتوق إلى السمو، في الموسيقى التي تردد صدى آلام الروح، في القصائد التي
تجرؤ على التغني بالمعنى واليقين.
عزيزي،
أرأيت؟!
ربما،
إذن، مقياس الإيمان لا يكمن في المشهد الخارجي للمعاناة، أو في السيف الحديدي
للجلاد، بل يكمن في معاناة الروح الصامتة. ربما واجه المسيحيون القدماء، بترانيمهم
التي صدحت وسط النيران، ظلامًا مختلفًا، لكن النضال من أجل النور لا يزال قائمًا
بنفس القوة. في عصر المتاهة الذي نعيشه، الإيمان ليس حصنا، بل هو شعلة، تتحدى
الظلال الزاحفة، وهي شهادة على تعطش الروح البشرية الدائم للمعنى، والغاية،
والارتباط بشيء يتجاوز هنا والآن.
لذلك،
عزيزي، أرجوك لا تتوق إلى عصر ذهبي أسطوري، أو تؤنب ضمائرنا كل يوم أننا لسنا مؤمنون
بما يكفي، او قديسون كما هو مطلوب.
عزيزي،
إن مؤمني اليوم يقفون كحراس عظماء وأبطال في عصر يتجاوز فيه النضال من أجل الإيمان
مجرد ضربة سيف أو تحطيم هراوة. فنضال اليوم هو ضد وحوش غير مرئية، أشباح تهاجم كياننا
الإنساني بضراوة. مؤمنو اليوم، هما أبطال إيمان بقدر أبطال الماضي، ومؤمنو المدينة
يخوضون حربًا أشرس من نُساك الصحراء.
تعليقات
إرسال تعليق