التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حياة باي والايمان بالله

 


في العام 2010 – وبحسب جريدة ستار فونيكس الكندية- كتب باراك أوباما رسالة لمارتل يصف فيها رواية "حياة باي" قائلاً: "انها إثبات رائع لـ[وجود] لله." لم يكن اوباما مخطئًا، ففي توطئة الرواية كتب مارتل هذه الكلمات على لسان عجوز هندي في مقهى في بلدة بونديتشيري: "لدي قصة ستجعلك تؤمن بالله."  في الواقع إن الرواية لا تدور حول إثبات وجود الله إنما تدور حول "إعادة اكتشاف الإيمان."

مارتل لا يقدم روايته في صورة سرد تقليدي للإحداث، نحن أمام رواية فريدة من نوعها، إذ استعرنا تعبير باي أن "بعض الأشخاص الذين نلتقيهم قد يغيرون حياتنا" فإن بعض الكتب قد تُسهم أيضًا في تغيير حياتنا: حتمًا رواية حياة باي هي أحد هذه الكتب.

يقدم مارتل روايته في ثلاثة أجزاء تحوي مجتمعة مائة فصل.  في الجزء الأول يتحدث مارتل عن باي: بطل الرواية، واختباره للإيمان: هندوسيًا، مسيحيًا، ومسلمًا، هو يبحث عن الله، فبرغم تحذير والده أنه لا يمكنه أن يسلك في ثلاثة دروب دفعة واحدة، إلا إن إجابة باي كانت جلية: "إنني فقط أريد أن أحب الله." هذا الجزء ليس فقط عن الإيمان، بل عن العلم أيضًا، فباي تمتلك عائلته حديقة حيوان وهو يقدم لنا شرحًا لنفسيات وطبائع الحيوانات لكنها في الواقع بيان لحقيقة الإنسان.

تقرر عائلة باي الانتقال إلى كندا مصطحبين معهم حديقة الحيوان. في الجزء الثاني تغرق السفينة التي تقلهم، ويبقى باي على قارب نجاة، هو فقط وبصحبته نمر: "ريتشارد باركر"، هكذا يسميه باي.  هذا الجزء يحمل أصداء رائعة هيمنجواي "العجوز والبحر"، فالعجوز وحده مع البحر والسمكة، هنا باي وحده مع البحر والنمر. لكن ريتشارد باركر ليس مجرد نمرًا آسيويًا عاديًا، بل هو تلك الطبيعة المتوحشة: الغريزة التي تقبع في عمق قلب الإنسان، هل ينجح الإنسان في ترويضها؟ الإجابة في تجربة باي مع النمر: يخبرنا باي أن "الشر الظاهر ليس إلا شرًا ينبعث من الداخل. أما المعركة الأساسية من أجل الخير ليست في المجال العام المفتوح لكن في تلك الفسحة الصغيرة داخل كل قلب بشري" (فصل 25).

إن رحلة صراع الإنسان مع طبيعته المتوحشة لا تنفصل عن رحلته للبحث عن اليقين، وهي رحلة ربما تبدأ بالشك فالشك والإيمان مرتبطان معًا، يعزف مارتل سيمفونية الصراع تلك بكلمات بالغة الروعة: "الشك مفيد لبعض الوقت وأنه علينا جميعًا أن نختار بستان جثيماني، إذا ما كان المسيح داعب الشك فينبغي لنا أن نُراعيه أيضًا... فيحق لنا نحن أيضًا بأن نَشُك لكن علينا المُضي قُدما بعد ذلك" (فصل7).

في الجزء الثالث يتم إنقاذ باي بعد 227 يومًا قضاها في البحر مع ريتشارد باركر. نجد أنفسنا أمام شخصين من البحرية اليابانية يٌريدان معرفة ما حدث للسفينة، يحكي باي لهما قصتان، القصة الحقيقية التي حدثت له وصراعه مع النمر، لكن الرجلان لا يصدقانه، فيعود ويحكي لهما قصة عادية ومملة، والمثير أن هذه القصة الثانية هي التي كانت قابلة للتصديق، فيصدقها الرجلان فيصدقانه ويرحلان.

كانت القصة الأولى غير قابلة للتصديق ربما لأنها كانت تحمل فكرة النجاة بالإيمان، فباي نجا لأنه فقط كان يؤمن بالله، بينما القصة الثانية كانت تلك القصة العادية المملة والرتيبة التي قد تحدث لأي شخص ويستطيع فيها أن ينجو بذكائه، هي تلك القصة التي قد تتكرر في أي مكان في العالم، فالعالم مكان رتيب وملل، هكذا ربما فكر اليابانيان، لكن لباي رأي آخر فـي قصة الحياة فـ"العالم ليس كما هو، بل كما نفهمه أليس كذلك؟ وفي فهم شيء ما نضيف شيئًا لله، أليس كذلك؟ ألا يجعل هذا من الحياة قصة؟!" (فصل 98).

 مقتطفات من "حياة باي"

- "... سيظل هناك دائمًا حيوانات تسعى إلى الفرار ولا سيما تلك التي لا تشعر بالارتياح في حيزها المكاني... لا يتعلق الأمر بمحاكاة شروط عيشة في البرية، بقدر ما بالوصول إلى جوهر هذه الظروف" (فصل 10).

- "المسيحية تمتد إلى عصور ماضية، لكنها جوهريًا تُوجد في وقت واحد: الآن" (فصل 17).

- "قلت له: يا أبت أريد أن أكون مسيحيًا رجاء. ابتسم: أنت مسيحي أصلاً بيسين [باي] في قلبك، كل من يلتقي المسيح بإيمان هو مسيحي" (فصل 17).

- "إدراك أن المبدأ المؤسس للوجود هو ما نسميه الحب، الذي يُعبّر عن نفسه أحيانًا بطريقة غامضة غير صافية ولا مباشرة ومع ذلك لا تُمكن مقاومتها" (فصل 21).

- "أود أن أقول شيئًا عن الخوف أنه خضم الحياة الوحيد. وحده الخوف يمكن أن يهزم الحياة، أنه عدو زكي وغدار" (فصل 56).

- "تتخذ قرارات متسرعة. تطأ آخر حليفين لك: الأمل والثقة. هكذا تكون هزمت نفسك بنفسك. ويكون الخوف، والذي ليس أكثر من تعبير قد انتصر عليك" (فصل 56).

- "الإيمان بالله هو انفتاح كامل، انفلات مطلق، ثقة عميقة، فعل حب حر" (فصل 74).

- "إذا لم ندعم نحن المواطنين فَنّانِينا، فإننا نُضحي بمخيلتنا على مذبح الواقع الفظ، وينتهي بنا الأمر إلى ألا نصدق شيئًا إلى أن تصبح أحلامنا بلا قيمة" (من التوطئة).

الروائي يان مارتل

وُلدَ يان مارتل في إسبانيا عام 1963 لوالدين دبلوماسيين، وتنقل في نشأته بين كوستاريكا وفرنسا والمكسيك وألاسكا وكندا كما أمضى مطلع شبابه بين إيران وتركيا والهند. بعد دراسة الفلسفة في جامعة "ترنت" في كندا، شغل عدة وظائف حتى امتهن الكتابة في سن السابعة والعشرين. يعيش يان الآن في مونتريال.

"حياة باي" هو كتابه الثالث، فازت هذه الرواية عام 2000 بجائزة البوكر وهي جائزة أدبية رفيعة. كما ترجمت إلى اربعين لغة؛ نقلها إلى العربية سامر ابو هواش وصدرت طبعتها العربية الأولى عام 2006 عن منشورات الجمل (كولونيا- ألمانيا/ بغداد).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

الثاليا: قصيدة آريوس، مقدمة وترجمة

الآريوسية هي المسيحية الحقيقة: "المسيحية الموحدة بالله"، قَدَمَ هذه الفكرة أحد الكتاب المصريين ونشرها في احد الجرائد الرسمية، وكتب عدة مقالات متفرقة عنها. ووصف آريوس والآريوسيين بالـ "مسيحيين الموحدين بالله"، وكان القصد من ذلك الإشارة أن المسيحية الأرثوذكسية التي واجهت للآريوسية لم تكن موحدة بالله لوجود فكرة الثالوث ، وان آريوس – كحامل للمسيحية الصحيحة- قدم المسيح كإنسان ونبي. لكن في مجمع نيقية تم الحكم على آريوس ظلمًا وإختراع فكرة الثالوث وتأليه المسيح.