هذه الدراسة هي محاضرة ألقيتها في أحد كليات اللاهوت
الحركة الرهبانية
نشأت الحركة الرهبانية
كإمتداد للنسك الذي لُوحظ على نحو واسع من القرون الأولى لنشأة المسيحية. كانت
ممارسة الزهد عن إختيار ورغبة شخصية من قبل عدد من المسيحيين من كلا الجنسيين. كان
المتبتلون يعيشون في العالم، بمعنى أنهم بقوا مع عائلاتهم وشاركوا في الحياة
العامة للمجتمع المسيحي وفي وقت لاحق فحسب- أي مع نهاية القرن الثالث وبداية القرن
الرابع- بدءوا ينسحبون إلى خلوة في الصحراء
او العيش في جماعة.
يمثل
تاريخ نشأة الرهبنة تغيرات سريعة وجذرية في الاطر الإجتماعية، الثقافية والدينية.
بالرغم من ذلك يصعب جدًا تحديد بدايات وأسباب بذوغ الرهبنة بدقة، خاصة وأنه حتى
منتصف القرن الرابع الميلادي تغيب الرهبنة عن المصادر التي لدينا إلا من شذرات
قليلة، ومنذ هذا التاريخ وفجأة تصبح محور إهتمام كبير من قبل الأدب المسيحي
المكتوب.
تُسجل بعض المراجع المتأخرة[1]
أن أقدم إشارة للنسك في الصحراء هي عن فرونتينوس الذي إصطحب معه سبعين شخصًا وقت
إضطهاد أنطونيوس بيوس عام 151م وإنطلقوا إلى التعبد في صحراء نيتريا في مصر:
(Vitae
Patru: Life No 15, Book Ib, The Life of St Frontonius, abbot) "كان فرونتينوس خادمًا أمينًا لله،
وكان يتقدم يومًا إلي يوم في مخافة الله، ويصبح أقل وأقل في الإنفكاك عن حياة
المجتمع العامة وينمو في الرغبة في الصحراء غير المطروقة. دعا سبعين من الناس لهم نفس
التفكير وقال لهم: ما الذي لدينا مشتركًا مع هذا العالم القذر... لذا فلا نأخذ
شيئًا معنا، لنذهب الي الصحراء لنطلب مجد السماء، ونمارس تداريبًا اعلى للحياة
الفاضلة. وافقوا جميعًا على ما اقله، وتوجهوا الي الصحراء آخذين معهم بعض بذور
اشجار الزيتون، ومذراوات، ومعاول لحرث الأرض"
لكن في وقت ما في القرن الثالث وبداية القرن الرابع، بدأ
المسيحيون الذين يرغبون أن يعيشوا نُساكًا ويهدفون إلى الكمال في الشعور بحاجتهم
إلى الإنسحاب من العالم، وبدأ المتبتلون في التجمع معًا ويسُجل التاريخ وجود
مجتمعات للعذراى في الثلث الأخير من القرن الثالث. وبحسب رواية أثناسيوس عن حياة
أنطونيوس فعندما بدأ هذا الأخير حياة النسك بعد موت والديه حوالي سنة 270م أودع
أخته الصغيرة أحد بيوت العذراى. كما يبدو من تاريخ بلاديوس اللوزياكي (القرن
الخامس) أنه في القرن الرابع كانت هذه المجتمعات كثير إلى حد ما في المدن والصحاري:
(هيستوريا مونارخوم
10) "لقد رأيت أيضًا أعدادًا كبيرة من الرهبان من سائر الأعمار يعيشون في
البرية وفي الريف. عددهم يفوق الحصر"
كانت فكرة الإنسحاب بعيدًا عن العالم تزداد خاصة بعد ان
اصبحت المسيحية ديانة رسمية وفي حالة من الرفاهية، وقد قصدت الفكرة تقليل فرصة
الضياع في العالم والحاجة إلى وضع حاجز منيع بينهم وبين إغراءات العالم:
(هيستوريا مونارخوم 5،6): "... إنهم لايشغلون أنفسهم بأي موضوع أرضي
ولا يهتمون بأي شئ يخص هذا العالم الزائل... وبعضهم لا يعرفون حتى وجود عالم آخر
على الأرض أو أن الشر موجود في المدن... لقد اندهش الكثيرون منهم عندما سمعوا عما
يجرى في هذا العالم، لأنهم اقتنوا نسيانًا كاملاً للشئون الأرضية"
في سميرنا حوالي سنة 115م، كانت لجماعة البتوليين أهمية
وشهرة وذكرها اغناطيوس الانطاكي في رسالته الي تلك الكنيسة: " أسلم على...
العذارى المدعوات ارامل" (سميرنا 1:13)، نجد ذكرهم ايضًا في راعي هرماس (مثل
9: 10،11)، وأوريجانوس (ضد كلسس 48:7)، ويوستينوس (الدفاع الأول فصل 15)، وتاتيان
وأثيناغوراس وغيرهم.
أتى نظام الرهبانية الشرقية في إطار صيغتين مختلفتين:
حياة الناسك والراهب، فالراهب الناسك αναχωρώ (أي ينسحب
في خلوة) هو الذي يعيش وحيدًا، بينما الراهب κοινδβίον (أي يحيا في مجموعة) هو الذي
يعيش في جماعة في دير.
مع نهاية القرن الرابع كانت الفضل لأنطونيوس وباخوميوس
في تأسيس حركات الرهبنة النظامية. أنطونيوس هو أب الرهبان المتوحدين، وقد سجل
أثناسيوس الرسولي سيرته وقد لازمه ثلاث سنوات، يوجد لدينا نسختان لقصته الأولى
النص اليوناني لأثناسيوس والثانية نص قبطي والإختلافات بينهما طفيفة.
لكن كان هناك من سبق أنطونيوس في التوحد في الصحراء،
الأنبا بولا (بولس الطيبي) والذي هرب من السلطات وقت إضطهاد ديسيوس وفاليريان
للمسيحية (240-250م) وظل معتزلاً في الصحراء حتى توفي عن عمر 113 عامًا. دون جيروم
قصة الأنبا بولا وهو المصدر الأول لسيرته بجانب مجموعة من المخطوطات القبطية ويوجد
بينهما بعض الإختلافات.
وترتبط قصة الأنبا بولا بالأنبا انطونيوس ذلك لأن الله
اعلن لأنطونيوس أن هناك من سبقه في الرهبنة وقام يفتش عنه وبعد رحلة بحث طويلة
وشاقة وصل إليه.
عاش انطونيوس مدة خمسة عشر عامًا على مقربة من بلدته
(قمن العروس- بني سويف الآن) عام 285م، ثم إنتقل ليستقر في الصحراء في مكان مهجور
حيث عاش في حالة تقشف وكان طعامه يتكون من الخبز يجدد مؤنته كل ستة أشهر، كما كان
عليه أن يجتاز تجارب في غاية العنف حيث كانت الشياطين تحاره بصورة مرئية.
حوالي سنة 305م عندما كان إضطهاد دقلديانوس على اشده
وصلت شهرة فضائل انطونيوس ومعجزاته الي الخارج وتدفق عليه التلاميذ من كل صوب
وسرعان من بدأ في تكوين جماعة من المتوحدين. لم يكن دير بالمعنى الحرفي، لكن سكن
هؤلاء في التلال المحيطة وكانوا يعيشون في صوامع منعزلة ويقضون وقتهم في تراتيل
المزامير والصلاة والقراءات الروحية والعمل من اجل تدبير إحتياجاتهم وكان انطونيوس
يجمعهم معًا بين فترة وأخرى ويلقى عليهم العظات والتعاليم.
لم يكن أنطونيوس منعزلاً عن العالم كليًا، فأثناء إضطهاد
ماكسميليان توجه إلى الإسكندرية لتشجيع المضطهدين والذين في طريقهم إلى الإستشهاد
آمِلاً أن يموت هو معهم، ثم توجه مرة ثانية إلى الإسكندرية عام 338م لمقابلة
أثناسيوس صديقه وتلميذه الذي كان عائدًا من النفي، كان أنطونيوس أيضًا خصمًا
لدودًا للآريوسية.
في حياة انطونيوس بدأت مصر كلها تمتلئ بالرهبان خاصة
وادي النطرون، لكنهم كانوا يقيمون في صوامع منعزلة ولم يكن يوجد نظام مشترك.
لكن على يد باخوميوس والذي تتلمذ هو نفسه على يد
انطونيوس تاسست رهبانية الشركة، كما ان أخته أقامت أديرة للنساء كانت تقوم
برئاستها. كان الرهبان الباخوميون يخضعون لنظام مشترك في الحياة ولرئيس واحد وجاء
وقت كان باخوميوس يرأس فيه ثمانية أديرة.
يشير بلاديوس إلي العديد من أديرة النساء، على سبيل
المثال يشير إلى وجود نحو اربعمائة راهبة في دير للنساء في طبانيس:
(بلاديوس، التاريخ اللاوسي 33) "وكان
لديهم أيضًا دير للنساء به نحو أربعمائة راهبة"
كان هناك اعلام أخرى للرهبنة مثل مكاريوس المصري (أبا
مقار) وغيره.
اللاهوت الرهباني
إختلفت فكرة النسك المسيحي عن الثنائية اليونانية
/الغنوسية في النشأة، فالقصد من النسك المسيحي هو خلاص النفس وحفظها من مغريات
العالم وإماتة الجسد عن الشهوات، ذلك أن اهواء الجسد تشكل عقبة هائلة في طريق
الخلاص (رو 1:8-13؛ اكو 27:9؛ غلا 16:5-25؛ غلا8:6؛ يع 2:3-6)، لكن الجسد نفسه ليس
شرًا بل شهواته ورغباته هي كذلك، على خلاف مع الثنائية الغنوسية التي تعتبر المادة
والجسد في ذاتهما شر؛ وبينما يهدف النُسك المسيحي إلى إنكار الذات وسمو الجسد نحو
الروح فالغنوسية تهدف إلى الخلاص من الجسد:
(رسائل
القديس انطونيوس، الرسالة الأولى 3) ".... أولا، فإن الجسد يتطهر بالصوم
الكثير وبالسهر وبالصلوات والخدمة التي تجعل الإنسان ينضبط في جسده ويقطع من نفسه
كل شهوات الجسد... وعندما يتعلم العقل من الروح فإنه يصبح معلمًا لكل اعمال
الجسد... حتى انه من خلال طهارة (العقل) يتحرر الجسد..."، "...النتيجة:
تغيير وتجلي الجسد، وبذلك يتغير الجسد كله، ويتجدد ويصبح تحت سلطان الروح. وأعتقد
أنه عندما يتطهر كل الجسد ويأخذ ملء الروح فإنه بذلك يكون قد نال بعض النصيب من
ذلك الجسد الروحاني العتيد ان يكون في قيامة الابرار"
في النسك الروح تسعى الى الوصول الي درجة الكمال في خلال
اجتياز ثلاثة مراحل هي التحرر من الخطية بإماتة الجسد عن الشهوات، ومن ثم إكتساب
فضائل داخلية عن طريق الصلاة والتمثل بالمسيح، وأخيرًا النمو في محبة الله الكاملة
الى ان يصل الانسان وبسكناه الي الإتحاد معه.
كانت البتولية هي السمة الجوهرية التي تشير إلى أن
المسيحي قد أصبح في زمرة الُنساك، لكنها ليست السمة الوحيدة للنسك. كان المسيحي
الذي يَنذر نفسه لحياة البتولية "يُكرس لله" ويدخل في نوعية من الزواج
الروحي مع المسيح. لكن البتولية والقدرة على حفظها ليست من الإنسان: يشير كليمنضس
الروماني في رسالته الأولى إلى فيلبي (2:38): "ليظل الطاهر جسديًا هكذا
طاهرًا ولا يتفاخر موقنًا أن آخر هو الذي وهبه العفة هذه".، ويُضيف أوريجانوس
"الطهارة الكاملة موهبة غير عادية، يهبها الله للذين يرغبونها من كل قلوبهم،
ويطلبونها منه بإيمان بواسطة الصلاة بدون توقف" (تفسير متى 25:14). على الرغم
من ذلك فنحن لا نجد أنطونيوس يتحدث عن البتولية بطريقة مباشرة كأساس لحياة نسكية
نسكية مسيحية سامية، كذلك مقاريوس لا نجد في نصوصه ما يشير إلى الإهتمام بالبتولية
كوضع خارجي.
كان الفهم النسكي لتعاليم
وحياة المسيح هو قائد الحياة الرهبانية. فترك العالم وتبعية المسيح هي أساس
الإنطلاق لتلك الحياة:
(أثناسيوس الرسولي، حياة أنطونيوس 1) "أسرة
أنطونيوس من مصر، والديه ذو منزلة شريفة، وذوي أملاك كثيرة، ومسيحيين بالحقيقة...
أيضًا لم يضطرب وهو صبي حينما وجد نفسه غنيًا ووارثًا ممتلكات ثمينة متعددة من
والديه، ولم ينشغل بالطاعم الفاخر، ولم يهتم بالمسرات، ووجد الوسيلة للتخلص منها
في الوحدة، وبالأحرى لم يهتم بها البتة"
(أثناسيوس الرسولي، حياة انطونيوس 2) "... كان يفكر
مليًا في الرسل وكيف يتخلون عن كل شئ في تبعيتهم للمخلص، كما حدث مع سمعان بطرس
وانداروس اخوه حينما ترك الشباك وتبعاه بمجرد دعوته لهم، وهؤلاء الذين عرضوا
اعمالهم للبيع وقدموا انفسهم عند اقدام الرسل ليوزعوها كما يكون على
المحتاجين"
وبدون الزهد عن العالم لن
يستطيع الانسان ان يكون راهبًا
(بستان
الرهبان، القديس مقاريوس الكبير 37) ".... [قابل القديس مقاريوس رجلين في
البرية] فسألتهما كيف أصير راهبًا. فقالا لي: إن لم يزهد الانسان في كل امور
العالم فلن يستطيع ان يصير راهبًا"
كذلك حياة الإتضاع وخدمة
الآخرين:
(بستان
الرهبان، القديس انطونيوس 18 و19)
"قالوا له [لأنطونيوس]: هل جيد للراهب ان يكتفي بذاته ولا يأخذ من الإخوة ولا
يعطيهم؟، قال: إن تصرف الراهب هكذا فهو يعيش بلا إتضاع ولا رحمة، ويبعد بذلك من
الخيرات المعدة للمتضعين والرحماء"، "وسألوه ايضًا: إن كان جيد ان يكتفي
الراهب بنفسه. إذًا فلا هو يخدم أحد ولا يدع أحدًا يخدمه كذلك؟، فقل: إن الرب
علمنا ان نخدم إخوتنا كما يخدم العبيد سادتهم. وكما شد هو وسطه وغسل ارجل
التلاميذ. ولا نمتنع من ان نخدم، لأن بطرس لما امتنع من غسل رجليه، قال له المسيح:
إن لم اغسلك فلن يكون لك نصيب معي"
وبالرغم من ان حياة الرهبنة والنسك كانت تتسم
بالجهاد والأعمال والسهر إلا أن الخلاص لم يكن ببر الإنسان بل بنعمة الله:
(بستان الرهبان، القديس انطونيوس 22) "سأل الأنبا
بموا القديس انطونيوس عما يصنع لخلاص نفسه، فقال له: لا تتكل على برك ولا تصنع
شيئًا تندم عليه، وامسك لسناك وبطنك وقلبك"
(رسالة مقاريوس لأولاده 12) "وهكذا يبدأ الله
الرؤوف، أخيرًا [اي بعد التجارب واعمال الجهاد]، يفتح أعين قلب الإنسان لكي يفهم
ان الله هو الذي يثبته، وحينئذ يبدأ الإنسان يتعلم بالحقيقة كيف يعطي مجدًا لله
بكل تواضع وانسحاق قلب، كما يقول داود: الذبيحة لله روح منسحق"
فقهر الجسد وإذلاله ليسا كافيين للخلاص:
(بستان
الرهبان، القديس أنطونيوس 27) "وقال ايضًا: إن قومًا عذبوا أجسادهم في النسك
ولم يجدوا الإفراز [اي التمييز والبصيرة] فصاروا بعيدين عن طريق الله"
وكل ما يفعله الراهب يجب ان
يكون متفق مع مشيئة الله:
(بستان الرهبان،
القديس ايسيذوروس القس 162) "هكذا يجب ان يكون فهم القديسيين ان يعرف الإنسان
مشيئة الله وان يكون بكليته سامعًل للحق خاضعًا له، لأنه في صورة الله ومثاله. وأن
من اشر الأعمال كلها ان يطيع الإنسان إرادته ويخالف إرادة الله، وأن يكون له هوى
في شئ وفي غيره هوى آخر. فأما الذي يجد طريق القديسين ويمشي فيها فإنه يسر
بالأحزان، لأن سبيل الخلاص مملوء أحزانًا"
إرتبطت الحياة الرهبانية
بالتواضع، فالتواضع هو أعظم الفضائل الرهبانية فحينما يتواضع الإنسان يُدرك أن
إنتصاره في جهاده هو من الله وليس من ذاته وبره وانه من دون نعمة الله لن يخلص:
(رسالة مقاريوس لأولاده 12) "وهكذا يبدأ الله
الرؤوف، أخيرًا [اي بعد التجارب واعمال الجهاد]، يفتح أعين قلب الإنسان لكي يفهم
ان الله هو الذي يثبته، وحينئذ يبدأ الإنسان يتعلم بالحقيقة كيف يعطي مجدًا لله
بكل تواضع وانسحاق قلب، كما يقول داود: الذبيحة لله روح منسحق"
(بستان
الرهبان، القديس مقاريوس الكبير 36) " سئُل القديس مقاريوس: أي الفضائل
أعظيم؟ فأجاب وقال: إن كان التكبر يعتبر تشر الرذائل كلها حتى انه طرح طائفة من
الملائكة من علو السماء، فبلا شك يكون
التواضع أكبر الفضائل كلها لأنه قادر ان يرفع المتمسك به من الاعماق حتى ولو كان
خاطئًا. من اجل ذلك اعطي الرب الطوبي للمساكين بالروح"
إن مقاومة شهوات الجسد وعدم
الإستجابة لرغباته هي جزء من الزهد عن العالم وتركه فرغبات الجسد تعبر عن التوق
إلي العالم، لكن المقاومة وعدم الإستجابة تعني ضبط الجسد وأفكاره ولا تعني أبدًا
تجاهل الجسد:
(بستان الرهبان، القديس
مقاريوس الكبير 49) "بلغ الأب مقاريوس عن راهب متوحد داخل البرية منذ خمسين
عامًا لم يأكل خبزًا قط... فمضى الأب مقاريوس إليه فلما رآه المتوحد فرح كثيرًا...
قال له الأب [مقاريوس]: لي بعض اسئلة اريد ان اوجهها إليك فأجبني عنها، وهي إذا
اتفق لك ان عثرت على ذهب ملقى وسط حجارة فهل يمكنك ان تميز الذهب من الحجارة؟ قال:
نعم، ولكني أتغلب على فكري فلا يميل الي اخذ شيئًا منه. قال: حسنًا وإذا رأيت
إمرأة جميلة أيمكنك ألا تفكر فيها انها امرأة؟، قال:لا، لكني امسك فكري ألا اشتهيها
كما أن الحياة النسكية
السليمة تكون في قضاء اليوم مع الله بحسب ما يعطي الله من قوة لا بحسب قانون جامد:
(بستان
الرهبان، من أقوال أنبا برصنوفيوس 268) "سؤال: كيف ينبغي لي أن أقضي يومي؟.
الجواب: اقرأ في المزامير قليلاً واحفظ قليلاً، وفتش أفكارك قليلاً ولا تجعل ذاتك
تحت رباط قانون، ولكن اعمل بقدر ما قواك الله على فعله، ولا تترك تلاوة المزامير
والقراءة قليلاً قليلاً هكذا، وبذلك يمكنك ان تقضي يومك بمرضاة الله، لأن أباءنا
لم يكن لهم قوانين لساعات، بل كانوا يجتازون النهار كله: في القراءة وقتًا، وفي
تلاوة المزامير وقتًا، وفي تعلم حاجات طعامهم وقتًا آخر وهكذا"
وهي حياة ليست حرفية بل حياة
بالروح:
(أقوال الأباء الشيوخ،
الأب سلوان 1) "زار الأب سلوان وتلميذه زخريا أحد الأديار، فأجبروهما على
الأكل قليلاً قبل السفر. فلمّا خرجا، وجد التلميذ ماء في الطريق، فأراد أن يشرب. فقال
له الشيخ: زخريا، اليوم صوم. فقال ذاك ألم نأكل يا أبت؟ فقال الشيخ: ما أكلناه،
كان من المحبة. أما هنا، فلنحتفظ بصيامنا يا ولدي."
وكذلك هي التوبة فهي ليست
بقساوة الممارسات لكن بنقاوة وأمانة القلب:
(أقوال الأباء الشيوخ، الأب سيسوي 20) "سأل البعض
الأب سيسوي قائلين: إذا سقط أخ، ألا ينبغي أن يتوب سنة كاملة؟ فقال: إن هذا القول
صارم. قالوا: وهل يكتفي بستة أشهر؟ قال: هذا كثير. فقالوا: وهل يكفيه اربعون
يومًا؟ فقال إن هذا كثير أيضًا. فقالوا ماذا إذًا؟ إذا سقط في خطيئة، هل يشترك مع
الأخوة في المائدة فورًا؟ فقال لهم الشيخ: كلا. لكن تكفيه فترة وجيزة حتى يتوب،
لأني أؤمن أن الإنسان إذا تاب من كل قلبه، فإن الله في يقبله في غضون ثلاثة
أيام".
والحياة مع الله في الرهبنة هي حياة إختبارية لا
نظرية:
(بستان
الرهبان، من أقوال أنبا برصنوفيوس 270) "سؤال: قل لي يا ابي عن الصلاة الدائمة،
ماهو حدّها؟ وهل ينبغي لي أن اخذها قانون إزاءها؟. الجواب افرح بالرب يا اخي، افرح
بالرب يا حبيبي، افرح بالرب أيها الوارث معي. إن الصلاة الدائمة تكون للذين قد
كملوا وبلغوا حدَّ انعدام الأوجاع عنهم. لأن إذا بلغوا ذلك عرفوها، لأن الروح
يعرّفهم كل شئ. إذ يقول الرسول: إننا لا نعرف كيف نصلي كما ينبغي، ولكن الروح يطلب
من أجلنا بتنهد لا ينطق به. وماذا ينفعك إن وصفت لك مدينة رومية وأنت لم تدخلها
بعد؟"
وهي في ذات الوقت حياة تلمذة
حيث ينقل الأب الشيخ خبرته إلى تلاميذه الرهبان من خلال الإرشاد الروحي:
(بستان الرهبان، الراهب
والإرشاد الروحي 486) "قال الانبا انطونيوس: رأيت رهبانًا كثيرين، وقد وقعوا
في دهشة العقل، وذلك بعد تعب كثير، والسبب في ذلك انهم توكلوا على معرفتهم وحدهم،
ولم يصغوا الي الوصية القائلة: اسأل اباك فيخبرك، ومشايخك فيقولوا لك"
صور أخرى للاهوت
الرهباني
ظهرت صور أخرى
من اللاهوت الرهباني، بعضها تأثر بالغنوسية والبعض الأخرى كان متطرفًا ومغاليًا في
أفكاره وممارساته.
تأثرت
الرهبنة القبطية في بعض جوانبها أو ربما أفرادها بالأفكار الغنوسية يمكن أن نجد
تقارب كبير بين (أقوال الشيوخ، الأم سارة 4) و بين (إنجيل مريم المجدلية 3:5)
و(إنجيل توما 114):
(أقوال
الشيوخ، الأم سارة 4): "وذات يوم جاءها شيخان ناسكان كبيران من تخوم
بيلوسيوس. وبينما كانا في الطريق إليها، قالا فيما بينهما: هلم نذلل هذه العجوز.
ولما وصلا، قالا لها: انتبهي ان يناهضك فكرك فتقولي ها قد جاء النساك إليّ مع اني
امرأة. فقالت لهما: انا في الطبيعة إمرأة، لكني في الفكر لست كذلك"
(إنجيل
مريم المجدلية 3:5): "لكن بالأحرى، لنتفرغ لعظمته لأنه قد أعدنا وجبلنا
رجالا، فلما قالت مريم المجدلية ذلك... "
(إنجيل توما
114) "قال سمعان بطرس: دع مريم تتكرنا، لأن النساء لسن مستحقات للحياة. قال
يسوع: أنظر اني سوف أقودها كي أجعلها ذكرًا من أجل أنها يمكن أن تصبح روحًا حية،
تماثلكم أنتم يا رجال. لأن كل امرأة تجعل نفسها رجلاً سوف تدخل ملكوت
السموات"
تسجل الكتابات المبكرة مثل بستان
الرهبان، أقوال الاباء الشيوخ وغيرها ممارسات مغالية:
(بستان الرهبان، الأنبا زكريا 189) " كان لرجل اسمه
قاريون ولد صغير اسمه زكريا، هذا اتى الى الاسقيط وترهب به ومعه ابنه. وقد ربى
ابنه هناك وعلمه بما ينبغى. وكان الصبى جميل الخلقة وحسن الصورة جداً. فلما شب حدث
بسببه تذمر بين الرهبان، فلما سمع الوالد بذلك قال لابنه: يا زكريا هيا بنا نمضى
من هاهنا لان الاباء قد تذمروا بسببك، فأجاب الصبى أباه قائلاً: يا أبى ان الكل
هاهنا يعرفون انى ابنك ولكن ان مضينا الى مكان اخر، فلن يقولوا انى ابنك، فقال
الوالد: هيا بنا يا بانى نمضى الان فان الاباء يتذمرون بسببنا. وفعلا قاما ومضيا
الى الصعيد، واقاما فى قلاية، فحدث سجس كذلك، فقام الاثنان ومضيا الى الاسقيط
ثانية، فلما اقاما اياما عاد السجس عينه فى أمر الصبى. لما رأى زكريا ذلك مضى الى
غدير معدنى (كبريتى) وخلع ملابسه وغطس فى ذلك الماء حتى انفه، واقام غاطساً عدة
ساعات منفخاً، فتشوه وتغيرت ملامحه، فلما لبس ثيابه وجاء الى والده لم يتعرف عليه
الا بصعوبة. حدث ان مضى بعد ذلك الى الكنيسة لتناول الاسرار فعرفه القس ايسيذورس
وعندما رآه هكذا تعجب مما فلعه وقال: ان زكريا الصبى جاء فى الاحد الماضى وتقرب
على انه انسان. اما الان فقد صار شبه ملاك."
(فردوس الاباء ج1، قصص واقوال القديسين انبا زكريا
ووالده الانبا قاريون) " كان راهب فى الأسقيط يدعى قاريون وعندما ترك زوجته
وترك العالم ( ترهب ) كان له ابنان فحدثت بعد ذلك مجاعة فجاءت زوجته إلى الاسقيط
وهى مفتقرة من كل شئ وأحضرت معها ابنيهما وكان أحدهما ولداً والآخر بنتاً وأنتظرت
عند المستنقع على بعد مسافة من الشيخ وكانت العادة فى الإسقيط أنه عندما تأتى
امرأة لتتكلم مع أخ أو أى أحد يجب أن تظل بعيدة عنه أثناء حديثهما . فقالت المرأة
لأبا قاريون : أنك صرت راهباً وتوجد الآن مجاعة فمن هو الذى سيطعم ابنيك فقال لها
الأب قاريون : أرسلهما لى فقالت المرأة لهما : إذهبا إلى أبيكما ولما اقتربا من
والدهما عادت البنت مسرعة إلى أمها ولكن الصبى مكث مع والده فقال الشيخ لزوجته :
هذا جيد خذى البنت وانصرفى وأنا سأهتم بالولد "
(بلاديوس التاريخ اللوزياكي، مقاريوس السكندري 18. 4)
"وفي حين كان يجلس في قلايته في الصباح استقرت بوضة على قدمه ولدغته. وإذ شعر
الألم عصرها بيده بعد ان امتلأت بالدماء، فلام نفسه على انتقامه وحكم [على نفسه]
بالجلوس عاريًا في مستنقع الاسقيط الذي في الصحراء الكبيرة لمدة ستة شهور. والبعوض
هناك مثل الدبابير، حتى انها كانت تخترق جلد الخنازير البرية. فلدغ في كل جسده حتى
انتفخ لدرجة ان البعض قد ظن انه اصيب بداء الفيل. وعندما عاد الي قلايته بعد الستة
شهور أمكن التعريف عليه فقط من صوته انه هو مقاريوس نفسه"
[1] Vitae Patru (Life No
15, Book Ib, The Life of St Frontonius, abbot) 1628; Acta Sanctorum Aprili (Fronto
von Nitria); Menologium Benedictinum Sanctorum; Martyrologium Romanum
تعليقات
إرسال تعليق