تمهيد
صار السؤال
عن تصنيف طبيعة ولاهوت الكنيسة المصرية الأرثوذكسية (اختصارًا: القبطية) بين الشرق
والغرب، محل جدل دائر في أواسط الكُتاب الشعبيين من الأقباط، وتم الاتفاق الضمني
بينهم أن الكنيسة القبطية يُفترض بها أن تنتمي للمعسكر اللاهوتي الشرقي، لكنها
تأثرت بشدة في صياغاتها اللاهوتية بالتفكير اللاهوتي الغربي. أثر ذلك على كيفية
فهم واستيعاب حقيقة الكنيسة القبطية، وأصبح الحوار اللاهوتي الشعبي -في مفارقة
نادرة أن تُتبع جملة "الحوار اللاهوتي" بصفة الشعبي- يحفل الاستقطاب
والاتهامات المُتبادلة بين جماعات هذه الأوساط.
لكن على جانب آخر، يعكس هذا الاحتقان حقيقة أن الكنيسة القبطية، في صورتها الرسمية لا تمتلك إقرارات أيمان لاحقة لإقرار نيقية-القسطنطينية، تُساعد في فض هذا الاشتباك الذي تورط فيه جزء ليس بقليل من الإكليروس في الكنيسة مما زاد من هوة الصدع، ولفت الانتباه أن هناك صدعًا داخليًا ليس في الجانب الشعبي فقط لكن في الجانب المؤسسي الرسمي.
التاريخ
السياسي
حتى زمن
أغسطينوس (القرن الخامس)، لم يكن هناك تباعد بين الكنائس المسيحية في شتى الأرجاء.
لكن، ومع صدع مجمع خلقيدونية عام 451م، انعزلت الكنيسة القبطية عن باقي العالم
المسيحي، ليصير العالم المسيحي مُقسمًا إلى "الخلقيدونيين" أي الذي
قبلوا بالمجمع، و"اللاخلقيدونيين" أي الذين رفضوا المجمع وعلى رأسهم
الكنيسة المصرية.
في وقت
انعزال الكنيسة المصرية الذي تلا المجمع، لم يكن العالم اللاهوتي قد صار مُقسمًا
بعد تحت تسميات "اللاهوت الشرقي" و"اللاهوت الغربي." بالطبع، لا
ينفي هذا وجود اختلافات في الأطروحات اللاهوتية، والمداخل التفسيرية بين المناطق
المسيحية المختلفة منذ القرن الأول، ولم يكن ليسبب هذا الأمر مشكلة. لكن، حدثان تسببا
في حدوث التغيرات الجذرية التي أصبح معها التقسيم اللاهوتي واضحًا، ويمكن تسميته
بين العالم المسيحي اليوناني في الشرق الجغرافي، وبين العالم المسيحي اللاتيني في
الغرب الجغرافي، حيث كانت الإمبراطورية الرومانية مقسمة بالفعل قسمين سياسيين.
الحدث الأول، هو مجمع توليدو سنة 589م الذي عُقد لمجابهة الآريوسية، لكنه أضاف
تعليم الفيليوكيا Filioque إلى
قانون الإيمان، مؤكدا انبثاقَ الروح القدس من الابن مثلما من الآب. ويرى كريستوس
يناريس أن تلك الإضافة
كانت لتمييز المسيحية الغربية عن الشرق اليوناني (Yannaras,
2007, p. 15). الحدث الثاني، كان مع
الامبراطور شارلمان (768-814م) الذي
أراد تأسيس امبراطورية رومانية مقدسة جديدة في العالم الغربي (الإمبراطورية
الكارولنجية)، ليميز نفسه عن العالم الشرقي البيزنطي وتراثه الهيليني
(الإمبراطورية البيزنطية). يُشير يناريس :
"أدى
هذان الأمران إلى خصوصية الإمبراطورية الرومانية الغربية فيما يتعلقُ بالشرق
اليوناني، وقد استمت بتغيرات عدة في القوانين الكنسية، وشكل العبادة فرض البتولية
الملزمة لرجال الاكليروس، والاحتفال بالإفخارستيا بخبز الفطير، وإقصاء العلمانيين
من شركة الكأس، وإلغاء المعمودية بالتغطيس واستبدالها بالرش، ورأس الاكليروس
الحليقة وحلق لحاهم كلها كانت بعض التغييرات الخارجية التي ميزت بشكل واضح ممارسة
المسيحية الغربية عن التقليد المسيحي المبكر واستمراره في الشرق اليوناني." (Yannaras,
2007, p. 18)
كانت مصر في
هذا الوقت تحت نير الغزو العربي، وبعيدة كل البُعد عن هذه التغيرات السياسية
واللاهوتية. وبينما ظلت الصراعات اللاهوتية والاتهامات بالهرطقة متبادلة بين
العالمين الشرقي اليوناني والغربي اللاتيني، وأعلن شارلمان أغسطينوس "أعظم
معلم للكنيسة بعد الرسل"، كانت الكنيسة القبطية خارج هذا الإطار تمامًا. وفي
16 يوليو 1054م حينما أودع الكاردينال أومبرتوس منشورا على مذبح آيا
صوفيا يحرم كل العالم المسيحي الشرقي كختام للصراع حول إضافة الفيليوكا. ومع سقوط القسطنطينية عام 1453م في يد
الإمبراطورية العثمانية، انتهى التبارز اللاهوتي بين الشرق والغرب.
تاريخ
الاهوت
كان التنافس
اللاهوتي بين الشرق والغرب، هو تنافسًا أوروبيًا خالصًا، بتعريف جغرافيا اليوم.
وأدى استمرار حالة الجدل -برغم انتهاء التنافس مع سقوط القسطنطينية- إلى تطور
التفكير اللاهوتي وأطروحاته. وفي زمن الإصلاح البروتستانتي، حدث اتصال بين اتباع
لوثر والكنيسة اليونانية. ومع أن الحوار لم ينته إلى تغيير في المواقف اللاهوتية،
إلا أن كم الرسائل المُتبادلة يكشف أن تأثيرًا وتطورًا في التفكير والأطروحات
اللاهوتية كان قد حدث.
في مصر، كانت
الحالة أشبه بظلامٍ دامس. فقد أدى اضطهاد الُحكام الأجانب المسلمين المتتابعين
للكنيسة، وانتهاء عصر اللغتين القبطية واليونانية إلى انتهاء التفكير اللاهوتي.
كانت الكنيسة القبطية في حالة صراع من أجل البقاء، وصار أي نوع من التفكير خارج
هذا الإطار ترفًا بالغًا. يكتب القبطي ساويروس بن المقفع في القرن العاشر أن سبب
جهل الأقباط في زمانه بعقيدة الثالوث هو:
"اختلاطهم بأجانب [يقصد العرب]، ولضياع
لغتهم القبطية الأصلية [مع التعريب في العصر الأموي في القرن الثامن] التي منها
كانوا يعرفون مذهبهم، وصاروا لا يسمعون ذكر الثالوث بينهم إلا قليلاً، ولا لابن
الله ذكر بينهم إلا على سبيل المجاز، بل أكثر ما يسمعون أن الله فرد صمد."
(بن المقفع، الدر الثمين في إيضاح الدين، المقال الأول)
يُمكن للقارئ
أن يُدرك أن الخلفية التاريخية لتسميات اللاهوت الشرقي والغربي بعيدًا تمامًا
ومنفصلة عن تاريخ تَشكل وتطور الكنيسة القبطية. وقبل مجمع خلقيدونية، كان العالم
المسيحي يسير على خطى أفلاطون والأفلاطونية المُحدثة، مُتشحًا بالروحانية
الفلسفية، لكن ومع بزوغ اللاهوت اللاتيني تغير الحال. وبينما استمرت
الكنيسة اليونانية على خطا إرث أفلاطون وأرسطو كانت الكنيسة القبطية مع زمن
ثاؤفيلس السكندري وسلفه كيرلس الكبير قد انسلخت تدريجيًا عن هذا الإرث. وبينما
يُمكن أن يُطلق على اوريجينوس وأثناسيوس أنهم لاهوتيون أفلاطونيون، فلاحقيهم قد
تخلوا عن هذا الإرث الفلسفي في أطروحاتهم اللاهوتية.
وبالرغم من تواجد الكنيسة القبطية في الشرق جغرافيًا،
فقد أصبح لها ميزانها اللاهوتي الخاص الذي صاغه وشكله وضعها السياسي التاريخي
والثقافي. تمامًا مثلما شكل الوضع التاريخي والثقافي والسياسي العالم الغربي إلى
تقسيم لاهوتي داخلي يتبع إما إرثًا يونانيًا (القسطنطينية) أو إرثًا لاتينيًا
(روما). ولاحقًا، مع بروز الإصلاح البروتستانتي، يرتبك ذلك الانقسام، حتى أنه لم
يعد ممكنًا أن يظل هذا التقسيم قائمًا. بعبارة أخرى ارتبط هذا التقسيم بأوروبا في
فترة زمنية واستمر التقسيم بشكل ما حتى سقوط القسطنطينية وبزوغ عصر الإصلاح.
وبينما ظل الشرق اليوناني قائمًا مع استمالته في بعض الأوقات تجاه النمط اللاهوتي
الغربي السكولاستي، حدثت تغيرات لاهوتية وسياسية عدة في داخل القسم الغربي بحيث لم
يعد ممكنًا اعتباره شكلاً واحدًا.
وبينما في الغرب أصبحت تعريف الكنيسة مؤسسيًا، وفي الشرق
تعريفًا يونانيًا ميتافزيقيًا. كانت الكنيسة المصرية ترى الكنيسة في تعريفها
كجماعة المؤمنين كما رأت جانبًان طقسيًا
وهرميًا لا يمكن أن تقوم الكنيسة من دونهما، وقد لعب الاضطهاد والاستشهاد دورًا
كبيرًا في صياغة جزء من هذا التفكير.
كان التوجه الغربي يسير في خطى الكُتاب اللاهوتيين الذين
كتبوا باللاتينية: أغسطينوس، وجيروم، وغريغوريوس الكبير، وتوما الإكويني. بينما
الإطار الشرقي يتبع: الآباء الكبادوك، مكسيموس المعترف، وثيودور أسقف رايثو ويوحنا
الدمشقي وغريغوريوس بالاماس.
في حين طور كل من الغرب والشرق اليوناني لاهوتًا
أكاديميًا بشكل مُحكم، سواء باستخدام الأرسطية السكولاستية أو المعرفة المبنية على
الواقع التجريبي. تأخر اللاهوت المصري كثيرًا وكمن عند معالجات مُبسطة (وسطحية)
للشروحات اللاهوتية، افتقرت للعمق الأكاديمي أو حتى المنهج الاختباري، مع وجود
استثناءات مضيئة. لكن، لا يمكن لوم الُكتاب الأقباط على هذا القصور، فثمة أسباب
سياسية واجتماعية، جعلت من المجتمع القبطي مجتمعًا يحاول البقاء، ويفكر كيف سينجو
من مأزقه اليومي تحت الحكم العربي الإسلامي. تلك الأزمة التي لم تنفك إلا بوصول
محمد علي باشا في القرن التاسع العشر لسدة الحكم.
كان تطور الأطروحات اللاهوتية المستمر في الشرق
اليوناني، والغرب الكاثوليكي والبروتستانتي، ليس فقط ناتجًا عن حالة الجدال
القائمة والدائمة، لكن نتيجة لاستمرار التعليم الفلسفي والعلمي الأكاديمي في
أوروبا. وهو الأمر الذي كان غائبًا تمامًا عن مصر، خصوصًا مع غياب وسط ثقافي وفكري
وعلمي يمكن للاهوت المصري أن يتفاعل معه بأمان. وبينما كانت أوروبا تمر بالتنوير،
والإنسانوية، والإصلاح، والحداثة، كانت مصر غارقة في ظلام دامس فرضته الظروف
التاريخية.
البحث عن
هوية الكنيسة القبطية
إن البحث عن الأرثوذكسية الهيلينية في التقليد القبطي هو
أمر عبثي، وأي افتراض أن الأرثوذكسية الهيلينية -في صورتها اللاحقة للقرن الثالث،
وما بعد ذلك- كانت يومًا جزْءا من التقليد القبطي، هو انفصام تام عن إدراك التاريخ
والتطور اللاهوتي في العالم المسيحي عبر قرون ممتدة. ربما تكون صفة
"الأرثوذكسية" مضللة في كثير من الأحيان، فإلصاق صفة الأرثوذكسية سواء
بالكنيسة المصرية، أو الكنيسة اليونانية، أو الروسية، أو غيرها، لا يعني أن هناك
"تقليد παράδοσις أرثوذكسي واحد" يشمل كل هؤلاء. لكن
هناك "تقاليد أرثوذكسية" عدة أنتجها التاريخ والفكر والمجتمع المحلي لكل
كنيسة. لا يمكن الادعاء بوجود تقليد أرثوذكسي عالمي واحد، إلا في القرون الثلاث
الأولى مع عدم وجود مطابقة في التفاصيل.
في الأخير،
إن محاولة تنميط الكنيسة القبطية في أيٍ من معسكرين لاهوتيين لم يعودا قائمين في
عالمنا اليوم، ولم تكن الكنيسة القبطية يومًا ما جزءًا من تاريخهما ولا نشأتهما هو
أمر لا يمكن فهمه. إن الكنيسة القبطية، لا يمكن تصنيفها إلا في هويتها الخاصة أنها
كنيسة مصرية خالصة، لها تقليدها وعالمها الخاص.
25
مايو 2021
تعليقات
إرسال تعليق