التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الله، أيوب، نحن، وفيروس الكورونا


يحمل هذا الوباء لعالمنا تحدياتًا فلسفية، واقتصادية، وسياسية، على الأرجح ستغير وجه العالم كما عرفناه من قبل. لكن أبرز هذه التحديات -خاصة في هذا الجانب الشرقي من عالم- هو التحدي الايماني. لا أتحدث عن الجانب الساذج الخاص بأدوات التناول، إنما أتحدث عن الإيمان في عمقه وجذوره.
يبقى التساؤل المطروح أمام العديد من أصحاب الديانات والمسيحيين هو نفسه السؤال الذي طُرح بصورة غير مباشرة في سفر أيوب: هل يمكن الوثوق بالله؟ في الحوارات بين أيوب وأصدقائه نجد الله إله متعاطف لكنه يظل بعيدًا وصامتًا بل يترك الشيطان يصيب أيوب بمعاناة لا توصف، وربما في نظرنا بلا سبب. لقد وجد أيوب نفسه أمام خبرة جديدة مع الله الشخصي والمُحب، هو الإله اللامبالي. وهنا لم يجد أيوب مسؤولاً أمامه غير الله. فلا يمكنه أن يضع اللوم على الطبيعة أو الشيطان، فكل هذه جزء من خليقة الله وتحت سيادته وسلطانه.

لكن، كيف أجاب الله عن تساؤلات أيوب؟. يُفترض أن تظل هذه الإجابة صالحة إلى يومنا هذا، فالله هو هو الأمس واليوم وغدًا. كان التساؤل العميق لدى أيوب هو عن صلاح الله: هل الله صالح؟. كان رد الله على أيوب يطالبه بالإجابة عن عنايته وسيادته: "لعلك تناقض حكمي. تستذنبني لتتبرر أنت." (أيوب 40: 8). يؤكد الله في إجابته لأيوب عن بره واستقامته أنه فوق كل شيء قدوس وعادل وبار، وأن معرفة أيوب بالعالم ومجرياته وأموره وبالكون ونظامه معرفة ضئيلة جدًا، فما بالك بمعرفته عن الله.
في الحقيقة لا يمكن أن نضع تساؤلنا حول الشر والألم بهذه الصورة الساذجة: أن الإنسان بار وقد أصابه الألم لذا فالله غير عادل وغير صالح، أو على النقيض الآخر: الإنسان أخطأ وازداد شرًا لذا أصابه الشر والألم.
إننا نسى دائمًا أن الشر والألم والمرض والموت هي جزء لا يتجزأ من هذا العالم الساقط. لكن، مثلما أراد الله من أيوب، فالاختبار الحقيقي الذي ينتظر الله إجابته منا هو ردة فعلنا وموقفنا من الشر والألم الذي نواجهه. الله ليس مسؤولا عن الألم والشر، فهذه أمور أصيلة في العالم الساقط. لكنه في الوقت ذاته، ليس إلهًا صامتًا لا يُدرك ما نمر به، بل هو قد اجتاز ألم وشر وموت في تجسده. إن صلاح الله وبره لا يُفترض قياسه بما يحدث في العالم، لقد أعلن الله منذ اللحظة الأولى لخلقة الإنسان أن هذه هي نتائج العصيان والسقوط والخطية. لكن، صلاح الله وبره يُقاسان بمقاصده النهائية.
قد لا تُعجب هذه الإجابة كثيرين من يبحثون عن الإله السوبر مان الدائم التدخل لتخليص العالم من الشر. لكن، هذا هو ليس الله، وليس هذا هو ما يُعلنه الله عن مقاصده، فالشر قائم وموجود بسبب السقوط، والله يستخدمه ليمتحن ويهذب من يحبهم (مت 14: 1-11؛ عب 12: 4-14)، لكن الشر لن يمر بدون عقاب بل سيكون هناك عقاب نهائي ودائم للشر والشرير، وهذا هو أحد مقاصد الله النهائية.
يكتب كبريانوس (252م) في عظته "عن الموت" والتي كتبها بسبب الطاعون الذي اجتاح شمال إفريقيا:
"يُزعج البعض أن قوة هذا المرض تُهاجم شعبنا بالتساوي مع المسيحيين... كما لو كان المسيحي قد آمن بغرض أن يكون له تمتع بهذا العالم وهذه الحياة بدون ألم... يُزعج البعض أن هذا الموت الجماعي مشترك بيننا وبين الآخرين... طالما نحن في هذا العالم، فنحن مشتركون مع الجنس البشري في التساوي الجسدي، لكنهم منفصلون من جهة الروح... فمهما كانت اضرار الجسد هي مشتركة بيننا وبين بقية الجنس البشري ...حينما تكون الأرض عقيمة...فالجوع لا يميز بين الناس... السبي يشمل الجميع... انكسار السفينة يشمل الكل...الحميات وضعف الأطراف... كل هذه مشتركة لنا مع الآخرين، طالما أن هذا الجسد المشترك الذي لنا لانزال نحمله في هذا العالم." (كبريانوس، مقالة 7، ترجمة نصحي عبدالشهيد).
الCOVID-19 هو جزء من طبيعة هذا العالم الساقط، وجزء من دورة الحياة المليئة بالشر والألم؛ وما ينتظره الله منا هو ماذا سنفعل نحن في وسط وفي مواجهة هذه الضيقة. ماذا عن مواقفنا الإيمانية، الحياتية والإنسانية؟!. الإجابة التي يجب أن نبحث عنها هي أين صلاحنا نحن؟! لأن صلاح الله هو مؤكد لنا.

رابط مقالي الأول عن الموضوع


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لحن آجيوس إستين (أوو كيريوس ميتاسو)

  ملحوظة لقراءة الكتابة القبطية يجب تحميل هذا ال Font (إضغط هنا) يُرجح أن الألحان الكنسية نشأت مع الكنيسة نشاة الكنيسة نفسها، وتنوعت الألحان بحسب التراث الثقافي والحضاري الذي نشأت فيه كل كنيسة محلية. وتعتبر الأحان الكنسية هي جزء لا يتجزأ من العبادة، فهي كما يشير القديس باسيليوس: إن الترنيم هو هدوء النفس ومسرة الروح، يسكن الأمواج ويسكت عواصف حركات قلوبنا.

الطقس القبطي وتطور القداسات الثلاثة

[محاضرة ضمن مادة الكنيسة القبطية التي أدرسها بكلية اللاهوت الأسقفية] الطقس الديني هو مجموعة أفعال وتصرفات رمزية يستخدم فيها الإنسان جسده (عن طريق حركات معينة أو إرتداء زي معين أو ترديد كلمات معينة) لكي يُجسد أفكاره ومفاهيمه الدينية، ويُعبر عن علاقته بالقوى الفائقة التي يعبدها، مع الوقت يصير الطقس نمطًا سلوكيًا وجزءًا اصليلآ من العبادة الدينية، فمن خلال الطقس الديني يعيد الإنسان إحياء وتعيين تجربة مقدسة هي تجربة/خبرة تفاعله/تلاقيه مع الله من هنا فالطقس الديني يحتوى على أمرين: الرمزية والسلوك الإجتماعي.  والطقس الديني الجماعي (مثل ليتورجيا القداس في الكنيسة القبطية) يعزز من الإحساس بالشركة والوحدة داخل الجماعة، فالأفراد يقومون بعمل واحد معًا، وبالتالي فهو يعبر بصورة حية عن مفهوم الكنيسة ووحدتها. والطقس الديني في أساسه ليس غاية لذاته بل وسيلة للتعبير عن الغاية: العلاقة مع الله/ الإيمان؛ وينفصل الطقس عن تلك الغاية، حينما تتحول الممارسة الدينية إلى غاية في ذاتها.

هل كان المسيحيون الأوائل أكثر إيمانًا وقداسة منا اليوم؟

  عزيزي، أنت تؤمن أن مسيحيو الماضي قد وُهبُوا إيمانًا وقداسة فائقين، فقد عَبَرْوا من بوتقةِ الاضطهاد العنيف والالام التي تتجاوز عتبة التحمل لمن هم في العصر الحديث. كما أنك تؤمن أن القديسين والشهداء الأوائل، ونُساك الصحراء هم نموذج لا يُمكن لنا نحن المؤمنين المعاصرين تحقيقه. ها أنت تأبى أن تترك حنين الماضي، أو أن تُقْدِمُ على الفحصِ المتأني للمشهد الإيماني المعاصر، حتى تكتشف ذلك النسيج المعقد للحاضر، الذي يتحدى هذه المقارنات السهلة.